الخميس، 12 أغسطس 2010

استراتيجية الهوية من منظور إنسانوي

د. البكاي ولد عبد المالك- منشور ضمن كتاب - العيش سويا،منشورات مجلة أوراق فلسفية،القاهرة  - تونس 2008

تمهيد:

هل يمكن تجاوز حالة الانفصام التي تعانى منها الذات العربية المتأرجحة بين الثراء القديم والفراغ المأساوي الذي يعكسه حضورها في العالم في الوقت الراهن بإعادة التفكير في مفهوم الهوية ؟ هل هناك ضرورة لتحديد موقعنا في تيار العولمة لكي نتفادى في الوقت ذاته "الوجود الأحادي" و "تأحيد الوجود" ؟! بتعبير آخر من نحن ؟ وكيف نكون جزءا من العالم ؟

تلك هي الإشكالية التي سنحاول مناقشتها في البحث الذي بين أيدينا والذي خصصناه لقراءة جزء من أعمال أحد أعلام الفكر العربي المعاصر هو المفكر التونسي،وأستاذ كرسي الفلسفة للعالم العربي في المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم أستاذنا:الأستاذ الدكتور فتحي التريكي.

I ـ الهوية: الوجود والماهية:

الهوية (Identité) بالفرنسية و(Identitas) باللاتينية هي كلمة مشتقة من أصل لاتيني هو (Idem) ويطلق بمعنيين:الأول هو "الشيء نفسه"،والثاني "الشيء الذي لا يختلف في شيء عن شيء آخر"( ).ومن هذا الأصل أيضا اشتقت كلمة (Identicus) وتعني "الشبيه" و "النظير" والشيء نفسه وعكسه "المغاير" و"المختلف".

أما في لغتنا العربية فإن الهُوية بضم الهاء تشير، بالإضافة إلى مفهوم الحد،إلى ضمير الغائب "هو" ،والذي يقتضي في نظرنا الخروج من دائرة الذات،ومن عالم الذاتية الضيقة إلى عالم الآخر.

ومن هنا فإن هذه الكلمة تحيل في اشتقاقها اللغوي إلى "الغيرية" باعتبارها شرطا ضروريا من شروط إمكان تصورها ووجودها ( ).

ذلك هو ما جعل فيلسوفنا ،الذي انتهى إلى القول ب << عدم إمكانية الفصل بن الهوية والغيرية عل مستوى التحديد اللغوي>>( ) ،إلى البحث عن أرضية فلسفية للمفهوم تخلصه من التفسيرات المعكوسة،والدلالات السلبية المثقلة بالهاجس الأيديولوجي فنراه يلجأ تارة إلى أفلاطون وتارة إلى الفارابي وابن خلدون لتأصيل ذلك المفهوم << ألم يصطدم أفلاطون،المدافع عن الواحدية،بصعوبة كبرى وهي مكانة الآخر؟ ألم يجد نفسه مضطرا إلى قتل أبيه برمنيدس حتى يكون في الإمكان التفكير في اللاوجود،في الآخر المختلف والمغاير لكي تقدم الفلسفة؟ >>( ).

وبناءا على ذلك فإن الهوية من الناحية اللغوية والاصطلاحية تتجذر في حقل التنوع والاختلاف،وتقتضى نوعا من الانتقال السلس والتواصل بين قطب المغايرة وقطب المماثلة.

لهذا حاول أرسطو،من خلال نقده المشهور لنظرية المثل الأفلاطونية،النقد الذي عرف في تاريخ الفلسفة ب "برهان الإنسان الثالث" (démonstration du troisième homme)،تجاوز الهوة أو الاختلاف الأنطولوجي الذي أقامته الميتافيزيقا الأفلاطونية بين الوجود والماهية،بين العالم الواقعي والماهيات المجردة،المفارقة بافتراض وجود "إنسان ثالث" يسمح بوصل سلسلة الوجود الواحدة والمتدرجة،ويصلح بالتالي لأن يكون معيارا للحكم على مقدار الشبه بين مستويات الوجود فأضفى بذلك نوعا من المعقولية على الوجود ،وأعاد إليه الاعتبار الذي سلبته إياه الواحدية البرمنيدية والمثالية المطلقة الأفلاطونية.فلم يكن "قتل" برمنيدس على يد أفلاطون،لإضفاء المعقولية على اللاوجود ولتبرير التفكير في الآخر،أقل بشاعة من "قتل" أفلاطون على يد أرسطو لانتشال الهوية من سكونية الجوهر القائمة على الوحدة والثبات،وإعادة الاعتبار للوجود الواقعي المتعدد الموّار بالحركة والتغير.عندئذ يصبح "التنوع" و"الانفتاح" و "التعدد" و"الطابع الديناميكي"،لكن أيضا التعادل والتجانس والتكافؤ والحرية والمساواة أمام القانون (إيزونوميا) هي المحددات الفعلية للمفهوم "الجديد" للهوية عند المفكر الإنسانوي.هذا ما يتجلى من خلال استعراضه ونقده للأبعاد المختلفة لمفهوم الهوية التي حدها فيما يلي:

1- البعد المنطقي- الميتافيزيقي: تتحدد فيه الهوية باعتبارها ذاتية ومساواة.ويمكن تعريف الهوية في هذا المستوى بأنها << الوحدة المطلقة للوجود مع ذاته. وهي بهذا المعنى تعبر عن الاستحالة المنطقية والميتافيزيقية للفصل بين الوجود والماهية >>( ).

والحقيقة أن الهوية بهذا المعنى هي خاصية من خواص الكينونة المتعالية أي الوجود بما هو وجود ، حيث توجد تلك الكلية الأنطولوجية أو الوحدة التي لا انفصام لها بين الوجود والماهية على نحو ما بينه ديكارت في كتاب "التأملات".وهي لهذا السب إنكار للاختلاف والتعدد، ذلك أن مقولة برمنيدس "اللاوجود ليس موجودا" تعبر عن حقيقة جوهرية مفادها <<أن لا فكر إلا فكر الهوية،وأن الاختلاف الأنطولوجي لا يمكن تصوره،وأن الغيرية مستحيلة بالضرورة ،وأن الوجود في نهاية الأمر خال من كل مشاركة ولو جزئية للاوجود وللاختلاف والغيرية حتى لا يتعرض للفناء >>( ).

لهذا كان هذا البعد الأول للهوية ضيقا وقاصرا نظرا لطبيعته الذاتية،ونزعته الأحادية،وطابعه الاستبعادي ، فهو في الواقع – وكما أشار إلى ذلك فيلسوفنا- يختزل الهوية في مجرد وحدة أصلية ووظيفية تظهر من خلال كل "واحد" باعتباره انتماءا مشتركا إلى ذات كلية لا تمثل فيها الغيرية الاختلاف والتنوع سوى أعراض ظاهرة لشيء واحد بعينه هو الجوهر أو الماهية.

أما الحيز الذي يجد فيه هذا البعد الأول من أبعاد الهوية انطباقه ومجال عمله فهو التاريخ الذي يعطي لتلك الذات الواحدة بالجوهر المتكثرة بالعرض دلالة أنطولوجية مميزة.

2- البعد الأنطولوجي- التاريخي:تتحدد فيه الهوية باعتبارها تجانسا وقدرة على البحث عن غد أفضل.وفي هذا البعد يتقهقر مفهوم الهوية باعتبارها ذاتية مطلقة،وتأخذ صبغة أنطولوجية بما أنها تستند إلى فكرة الأصل أو المنشأ، والتجانس، ووحدة أنماط العيش.

بيد أن الهوية في هذا المستوى- الذي يجمع بين الإيجاب والسلب- هي هوية تاريخية تتحدد انطلاقا من وعي الكائن البشري بشمولية الكيان الذي ينتمي إليه ومركزيته لذا فإنها تتميز بثلاث خصائص: الأولى هي - تمدد الموجود بين الحياة والموت،بين الكينونة والاندثار. والخاصية الثانية هي :الحفاظ على الذات ،أما الخاصية الثالثة فهي:قابلية التحول والتبدل:تشد الخاصية الثانية الإنسان إلى ماضيه،وتربطه بحاضره،في حين توجهه الخاصية الثالثة نحو المستقبل.وتجمع الخاصية الثالثة بين مفهومي الاستمرارية أو السير الخطي وبين القطيعة ،بين التفتح والتغير مع الاحتفاظ بالماهية لذا يجب << التركيز على هذا الطابع الديناميكي للهوية التي هي تمدد وحركة يمكنان الموجود من البقاء في وضع يتراوح باستمرار بين الخوف من المستقبل،من الموت ومن العدم،وبين الفرح بإكمال حياته >>( ).

هذا الاضطراب للكينونة، والمراوحة بين الوجود والعدم هو العنصر السلبي الذي يتضمنه هذا البعد من أبعاد الهوية والسبب في ذلك هو اعتماده على فكرة الأصل.

ومن هنا ضرورة الفصل بين الهوية والأصل وهو الالتباس الذي نجده في بعض الأدبيات العربية التي تقترن فيها الهوية بالأصل وبالأصالة تارة ، وبالأصولية تارة أخرى واستحالت الهوية إلى واقع يتعالى على التاريخ وعلى سنن التطور.

و الحقيقة أن الأصل مفهوم استاتيكي في حين أن الهوية مفهوم تاريخي خاضع للصيرورة والتحول،وقابل للنمو والتمدد في العالم والتاريخ.

إن الهوية الفعلية لمجتمع من المجتمعات أو لأمة من الأمم هي محصلة ما ينتجه ذلك المجتمع أو تلك الأمة أو الدولة من إنتاج مادي أو رمزي

،وما يصطنعه لنفسه من علاقات أفقية بين أفراده،وما يؤسسه من تنظيمات اجتماعية أو سياسية،وما يقيمه من علاقات- سواء مع محيطه الطبيعي أو مع الأمم الأخرى- تعزز حضوره في العالم.

هذا ما جعل "التعين" في المكان وفي الزمان شرطين مهمين من شروط المفهوم الجديد للهوية.ونعني بالتعين في المكان أن تصبح الأمة أو الشعب أو الدولة جزءا من العالم. ومعلوم أن الجزء يتحدد بالكل ولا يحدده.أما التعين في الزمان فهو أن يصبح تاريخ ذلك الشعب أو تلك الدولة أو الأمة جزءا من تاريخ العالم ،وأن يطالب بحصته في الإرث الإنساني المشترك الذي تمثله في الوقت الراهن الحضارة الصناعية وهو ما يستدعي بالضرورة حضوره وملء الفراغ الذي قد يسببه انسحابه من الوجود ومغايرته الجذرية << فليست الهوية انكفاءا على الذات ،وإنما هي بالأحرى انفتاح وفهم،وتواصل وعمل>>( ).وهنا يصبح تفاعل الكائن البشري سواءا مع محيطه الطبيعي على الصعيد البيولوجي المحض،أو تواصله مع نظرائه ضمن حيز جغرافي أو ذهني محدد،تواصل تعززه وحدة الأصل ،العنصر المحوري في تحديد مفهوم الهوية في هذا المستوي الثاني.

وبمعزل عن هذا الانفتاح على الآخر وعلى الطبيعة،تصبح الهوية خطيرة من الناحية الاجتماعية والسياسية لأنها تقود إلى الانغلاق وإلى النـزعة الاستبعادية.

إن الهوية الثقافية مطلب مشروع،وهي سر نهضة الجماعات،إلا أنها متى فصلت عن الوعي بالتاريخ الواقعي المسيطر،تصبح على درجة معينة من الخطورة << فالهوية الثقافية – يقول سيرج لا توش- توجد بذاتها(en soi) في الجماعات الحية،أما عندما تصبح مطلبا لذاتها (pour soi ) فإنها تتحول عندئذ إلى علامة دالة على الانطواء على الذات حيال خطر داهم يتهددها ،ويخشى من أن تنحرف في اتجاه الانغلاق بل إلى التضليل والخداع>>( ).

وبما أن الهوية الثقافية عبارة عن منتوج تاريخي معين،مخزون من القيم المشتركة تكوّن بطريقة لا واعية، فإنها تظل عند الجماعة مفتوحة ومتعددة.أما عندما يتم تحويلها إلى أداة فإنها على العكس من ذلك تنغلق على ذاتها وتصبح استبعادية،أحادية لا تعرف التسامح،وشمولية وتواجه خطر الوقوع في الكليانية،عندئذ تجد نفسها غير بعيد عن التطهير العرقي.ذلك هو ما دعا مكسيم رودينسون إلى نعتها بأنها "وباء الجماعات" ( ).

وبناءا على ذلك يشدد البعد الأنطولوجي-التاريخي للهوية على التمدد والانفتاح،وقابلية التغير والتحول ،وهو بذلك يقضي على أسطورة "التولد التلقائي" للثقافة،ويدافع عن التواصل والحوار بين الثقافات عبر التاريخ.

3- البعد النفسي (السيكولوجي) : تتحدد فيه الهوية باعتبارها شخصية،وديناميكية،واستقلال ذاتي.وهنا تكون الهوية ثمرة لنمو الكائن البشري وتطوره طوال حياته .ويسمح هذا المستوى من الهوية للفرد بالبروز باعتباره كيانا مستقلا استقلالا ذاتيا إزاء "الوجود في العالم" الذي يشكله عالم الموضوعات المحيطة به، و "الوجود مع الآخرين" الذين يشاركهم حياته.ولا بد من التأكيد أن الهوية على الصعيد النفسي تقتضى عدم إمكانية الفصل بين الأنا والآخر( ). والهوية بهذا المعنى هي سعي من جانب الفرد للحصول على الاعتراف به،وتثمين وجوده باعتباره وحدة بنيوية قائمة بذاتها،وامتدادا عبر الزمن دون أن يؤثر ذلك النـزوع على التنوع الداخلي وهو ما يؤدي إلى نوع من الازدواجية في وعي الفرد المشتت بين الثراء والاعتزاز بالنفس.لذا كان هذا السعي لانتزاع الاعتراف من الآخر مقرونا بالاعتراف بالآخر، والإقرار بوحدته البنيوية واستقلاله الذاتي <<ولهذا السبب يكون كل استبعاد للآخر،وكل رفض لتحديد موقعنا بالنظر إليه نوعا من انحلال الهوية قد يؤدي إلى انفصام الشخصية >>( ). إن كل انفتاح وتمدد في اتجاه الآخر إنما يقوي الانتظام الذاتي للفرد،ويعزز نسق الهوية لديه.

4- البعد السياسي للهوية : تتحد فيه الهوية باعتبارها في الآن ذاته كلا وتذويتا (subjectivation).والهوية بهذا المعنى هي نتيجة لجدلية صعبة للتضامن بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين وصراعاتهم.<<فإذا كانت الميتافيزيقا قد أخفقت في التحكم في مفهوم الهوية ،وإذا كان التحليل الأنطولوجي التاريخي والنفسي يقود بالضرورة إلى الانفتاح على الآخر؛ فإن عقلانية الهوية- في علاقتها بالحداثة - تنقسم على الصعيد السياسي إلى قسمين هما: الهوية باعتبارها مسارا للاندماج الأقصى للفرد في دواليب السلطة،والهوية بصفتها نوعا من التذويت أي باعتبارها دستورا ذاتيا [للفرد] واهتماما بالذات على حد تعبير مشيل فوكو>>( ).

وقد حدد فيلسوفنا في مكان آخر( ) ،الآليات المتعلقة بما أسماه ب "الاستراتيجية المهيمنة للنسق السياسي" على الفرد فيما يلي:

- حصر رغبات الفرد الفكرية والحياتية في المجالات الاقتصادية والاجتماعي والسياسية في أطر محددة تسهل السيطرة عليه والتحكم فيه، فتتلاشى هويته و << يغيب الزمن الحياتي الهادئ والناعم ليعوض بالزمن الهووي الذي يخرج من الذات ليعود إليها في صيغة علمية وتقنية دقيقة لاستعبادها وإخضاعها >>( ).

- قولبة الرغبات الطبيعية للإنسان وإخضاعها لمتطلبات الربح والسوق من خلال ربطها بطريقة لا واعية بتقلبات الموضة والإشهار.

- تعرية الفرد وحصاره اجتماعيا عن طريق اختزال هويته في سلسلة من الأرقام والبيانات لتسهيل الوصول إليه عند الحاجة لغرض التعبئة أو للرقابة والعقاب.

فسلطة الدولة القومية القائمة على "أسطورة العقل التماثلي" هي نوع من البناء الذي يسلب كل نوع من أنواع الفردنة ويطارده.لذا ناضل فلاسفة الاختلاف والنـزعات الفلسفية الإنسانوية من أجل نوع من الانزياح بين مجال العام والخاص،وحاولوا إعادة ترميم الذات – كما هو الشأن عند هايدغر- وتأسيسها على "الوجود الأصيل"،وهو نوع من الوجود يقوم على الحرية وتحمل الموجود البشري لأعباء وجوده : إزاء "العقل الأدواتي" الذي يقابله عند هايدغر عالم التقنية و"الوجود في العالم" من جهة،وإزاء عقل الجماعة أو عالم السياسة المتمثل في "الوجود مع الآخرين" من جهة ثانية.

هذا الانحصار بين قطبين مختلفين جعل كينونة الإنسان كرة تتقاذفها عوالم غريبة عنها،وأحل الإنية الفردية موضوعيا في حال من الاغتراب وضياع الهوية.

<< وبالفعل فإن الطابع الاستراتيجي للهوية يقوم على مقاومة المماثلة السياسية ،وتأحيد أنماط العيش،وهذا حسب تقديري – يقول فيلسوفنا – هو المعنى الذي يعطيه مشيل فوكو للتذويت ،وعبر عنه جيل دولوز في عبارته المشهورة ب "خط الهيجان" >>( ).

إلا أن فيلسوفنا يحذرنا من الخلط بين "التذويت" (subjectivation) وبين "النـزعة الفردية" ( individualisme) على اعتبار أن التذويت هو مجرد التأكيد على الهوية وفرضها بما هي إبراز لذات فاعلة ،مستقلة وواعية بحدود ممارستها،في مقابل نزعة التأحيد والسستمة التي هي من طبيعة العقل التماثلي،وهو ما عبر عنه مشيل فوكو بقوله <<إن المشكلة ،التي هي في ذات الوقت مشكلة سياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية التي تطرح نفسها علينا في الوقت الحاضر،لا تكمن في محاولة تحرير الفرد من الدولة ومن مؤسساتها ،بل في تحريرنا نحن من الدولة ومن نمط الفردنة المرتبط بها >>( ).

إن تحديد الهوية على هذا النحو يهدف في المقام الأول إلى استبعاد الدلالات السلبية التي تقتضي من جهة "الابتعاد عن الماضي"( )- إذ يستحيل على الأقل << إيجاد أسس هذه الهوية في التراث الماضي فحسب >>( )- وما ينجم عن ذلك من تلطيف للماهية وانغماس في الوجود الراهن الذي يتجلى من خلال الحضور الديناميكي الفاعل في العالم؛ وضرورة إقرار الاختلاف والغيرية والتحول باعتبارها المحددات الفعلية للمفهوم الجديد للهوية عند المفكر الإنسانوي من جهة أخرى .وهذا يعني القطيعة التامة والجذرية مع المفهوم التقليدي للهوية القائم على الانطواء على الذات ،والنزعة الماضوية،ورفض الآخر.

وفي مقابل قوة المشاكلة هذه عمل تيار ما بعد الحداثة ،وبخاصة مدرسة فرانكفورت،على تأسيس نمط جديد من العقل هو "العقل التواصلي" الذي يسعى إلى تجاوز مركزية الذات إلى حيز مشترك تتضافر فيه الذاتيات وتتساند وبذلك نجد << أن الإطار المحدد لكل أنواع التواصل بين الأنا والغير قد تمثل في "ما بين الذاتيات" وأصبحت هذه الأنا الأحادية ،التصورية المطلقة والمتعالية تصورات عقيمة أجبرت الفلسفة على تجاوز فكر الأنا المتعالي نحو فلسفة التواصل >>( ).

بذلك يكون المفهوم الجديد للهوية عند المفكر الإنسانوي مفهوما يرتكز على الديناميكية والتعدد ،في مقابل سكونية الجوهر وواحديته،وهو علاوة على ذلك تفتق،وانعتاق،وتحرر في مقابل التأحيد والسستمة ،لكنه كذلك انفتاح وتمدد في الزمان والمكان.وبذلك يتحدد وجود الإنسان "كوجود مع" ،كوجود مشارك،ككائن تاريخي.

II – الهوية :الذات والآخر:

هل يمكننا إعادة تحديد مفهوم الهوية في ضوء الغيرية الثقافية ؟

تطرح العلاقة مع الآخر في الوقت الراهن إشكالية عويصة في ظل اشتداد المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب، وتعاظم النـزعات الارتكاسية القائمة على رد الفعل والداعية إلى تعميق الغيرية الثقافية.وانقسم العالم لهذا السبب جغرافيا وذهنيا إلى معسكرين: المركزية العرقية والغيرية الثقافية،وأصبح ردم الهوة بين ذينك العالمين أمرا بعيد المنال وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وفي الواقع فإن مسار "التدمير الخلاق" الذي يغذي ديناميكية اقتصاد السوق من جهة ،وردود الفعل الهووية من جهة أخرى قد أدى إلى تقهقر الهوية الثقافية على الصعيد الكوني ،ونجم عنه تفكيك لعرى الجماعات وإعادة موضعتها ضمن الفلك الجديد الذي تمثله العولمة،أي ضمن حدود تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا.وكان من نتائج ذلك أن ولد المزيد من الغل والعداء الناجم أيضا عن سوء توزيع الثروة على الصعيد العالمي.

يقول سيرج لاتوش << ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن هذه العودة إلى المركزية العرقية في الجنوب والشرق إنما تتناسب في حقيقة الأمر مع العنف الخفي الذي سببه النموذج الكوني الغربي كما لو كان وراء الحياد الظاهر للسلعة،والصورة الإعلامية،ومهنية القانون، تقبع - في اعتقاد الكثير من الشعوب- مركزية إتنية غايرة،غريبة ،مركزية إتنية كونية هي المركزية العرقية للشمال والغرب ،مدمرة أكثر من كونها نفيا رسميا وجذريا لكل الفوارق الثقافية >>( ).

وقد أدت هذه المركزية الإتنية إلى تحويل العالم الآخر إلى "ورشة فسيحة للمخلفات" على حد تعبير ريمو غويدييري <<إن ذلك التغريب لا يتضمن اختفاء الثقافات الأخرى >> فحسب بل إن <<العالم المعاصر غير الغربي قد أصبح عبارة عن ورشة فسيحة للمخلفات>>. ويضيف غويدييري قائلا إن علم الأجناس عليه أن يرفض اعتبار ورشة المخلفات تلك "موضوعا" لدراسته ،كما يتعين القيام ب << تعديل جذري للصورة المصطنعة شيئا ما – الموروثة عن السلف ابتداءا من اشبنغلر وفيبر وصولا إلى غيلين – التي تكونت عن تأريب العالم في عصر انتصار الميتافيزيقا .فما يطالعنا –يقول غويدييري- ليس التدبير الشامل للعالم في مخططات تقانية صارمة بل هو "ورشة فسيحة للمخلفات" التي بفعل تفاعلها مع التوزيع غير العادل للسلطة والثروة على الصعيد العالمي تفسح المجال لتطور أوضاع هامشية هي بالذات حقيقة "البدائي" في عالمنا >>( ).

إن الانحسار ضمن أنموذج مشحون باشتراطات أيديولوجية هو الذي أدى إلى المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية:إما المركزية العرقية (ethnocentrisme) وإما النـزعة الإتنية (ethnicisme) و الإرهاب القائم على الهوية أو النـزعة الكونية المتوحشة،إنه انحدار غير مسبوق في مانوية ( ) خطيرة:إما خضوع الثقافة،ثقافة الآخر لقانون المعادلة المفترس،وإما التهميش والإقصاء.

هذا المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية يمكن أن نقرأه في التعدد الواضح في خطاب الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة الذي حصر العلاقة مع الآخر ضمن خيارين لا ثالث لهما: قطب المغايرة الجذرية وقطب الانتماء المشترك.

وفي تقديرنا فإن الانحسار ضمن هذه القطبية المزدوجة لا يساعد في إعادة تحديد مضمون الحوار المنشود بين الثقافات بل يتناقض مع مفهوم الهوية ذاته كما رأينا.

وقد انقسم خطاب الأنثروبولوجيا المعاصرة لهذا السبب إلى اتجاهات ثلاثة:

- اتجاه يدعو إلى تطهير الغيرية الجذرية وتلطيفها بالدعوة المشبعة بروح ميتافيزيقية إلى إنسانية متحدة،وإلى ذات فوق تاريخية تنحل فيها سائر الذوات الأخرى مهما تكن الفوارق بينها.

- اتجاه آخر يتعارض مع الاتجاه الأول ،ينظر إلى ثقافة الآخر على أنها ثقافة بدائية أو قديمة،وهذا يعني استحالة العثور على الذات الإنسانية المشتركة إلا بالقفز فوق الاختلافات والتناقضات التاريخية التي باعدت بين الذات والآخر .

- اتجاه ثالث يعتبر الثقافات الأخرى مراحل موغلة في القدم للحضارة الإنسانية الوحيدة والحقيقية :ثقافة الشعوب التي حصلت منها الانثروبولوجيا الثقافية لأول مرة على شرفها كخطاب علمي ( ).

ويبدو الاتجاه الأول بالفعل قادرا على تجاوز توترات العلاقة بين الذات والآخر،وتجاوز فكي الإحراج اللذين آلت إليهما ديمقراطية ما بعد الكليانية.

هذا المسار الذي نجده عند بعض فلاسفة الاختلاف وتيار ما بعد الحداثة،هو المسار الذي يتعين على الخطاب الفلسفي العربي المعاصر أن يسلكه،وهو الخطاب الذي أراده صاحب "استراتيجية الهوية" علاجيا "كلينيكيا" كما يقول من شأنه معالجة <<الخلل الوظيفي في كينونتنا المنهكة ،المحصورة بين قطبين متباعدين هما: "الانطواء على الذات" الذي يجد شرعيته ضمن خطاب ارتكاسي قائم على رد الفعل؛ و "التدمير الذاتي" الذي يطبعه الميل إلى نزعة كونية مجردة ،وعولمة تفسح المجال أكثر فأكثر لتعميق الفوارق بين الدول والشعوب >>( ).

ذلك هو ما حدا ببعض الأنثروبولوجيين المعاصرين إلى المطالبة بحالة ثقافية استثنائية تقوم على المحاصة عوضا عن الخضوع لقانون معادلة الثقافات.

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاندماج في النمط الموحد (المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب) إذا كان يضمن الاعتراف والحق المشروع في التعبير عن الذات تعبيرا ديناميكيا،بل يكمن بالأحرى إما في "بلقنة الهويات" وإما في إذعان النمط الموحد لأسطورة الثراء القديم فيصبح ثقافة مهيمنة تحمل سلاح التهميش والإقصاء وتضرب سائر الأمكنة بالتوازي.

ومن هنا نخلص مع سيرج لاتوش –الذي يمثل بشكل أو بآخر منظومة فلسفية مرجعية لفيلسوفنا- إلى القول بأنه لم تكن ثمة في أي وقت كان ثقافة "نقية ،معزولة ومنغلقة" ،بل إن الثقافات إنما تعيش من التبادل والإسهام المشترك المتواصل.

هكذا تصبح تجربة التلاقي مع الحضارات الأخرى،والبحث عن الإنسانية المتحدة تجربة بالغة الأهمية من الناحية الثقافية لدى المفكر الإنسانوي.وهذا بالفعل هو ما جعل فيلسوفنا يبلور نقدا مزدوجا لما يسميه ب "أيديولوجيا الارتكاس" من ناحية ( )،و "منطقية العقل الموحد" التي تتجاوز في دلالاتها الهيمنة الثقافية الخارجية لتتغلغل في الشعور الجمعي والذاكرة المشتركة بحثا عن بذور ذلك الخلل .

هذا التناقض أو الانفصام الذي تعاني منه الذات العربية المتأرجحة بين الثراء القديم والفراغ المأساوي أو "حضور العدم" كما يقول فيلسوفنا ،هو الذي صرف الخطاب الفلسفي العربي عن السؤال الصحيح الذي هو سؤال الحداثة إلى مزعوم هو سؤال الهوية،فتحول السؤال "من نحن ؟ " ،كيف ننقذ كينونتنا المنهكة من هاوية العدم إلى السؤال "من هو عدونا ؟" ( ).

وقد كشف نتشه في "إرادة القوة" و"جنيالوجيا الأخلاق" عما أسماه ب "التحول المفهومي" الذي هو تمارسها القوى الارتكاسية – الضعيفة التي تعجز عن خلق الاختلاف في القوة بينها وبين القوى الفاعلة فتعمد إلى قلب المفاهيم وخلق نسق جديد من القيم يحمل معنى الإدانة للقوى الفاعلة.

لهذا السبب كان السؤال "من نحن ؟" <<في جوهره استبعاديا فهم يقسم الناس من الناحية الأيديولوجية إلى أصدقاء وأعداء ويعمل بطريقة صراعية .إلا أن كل صراع حسب كلوزوفيتش هو سير في اتجاه الحدود القصوى أي أنه عنف محض إذ يتعين على كل طرف من أطراف الصراع أن يستعمل أكبر قدر من العنف للمحافظة على حياته وهويته >> ( ).وبما أن كل خصم يقوم بنفس الاستدلال الاستراتيجي،فإن ذلك الصراع يصل إلى أقصاه إذا لم تعمل بعض العوائق (مثل الدبلوماسية أو الرهانات أو غيرها ) على الفصل بين أطراف الصراع >>( ).

سؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر،الذي هو سؤال العقل والمعرفة والوجود سرقته الأيديولوجيا وأحلت محله سؤال الهوية الذي هو سؤال العنف واللاوجود والسلب المطلق.<<إن خطاب الهوية هو إذن خطاب من حيث طبيعته خطاب استبعادي،فهو برسمه لحدود الولاء والحلف،يشير إلى الآخر باعتباره خصما،بل باعتباره عدوا بالفعل أو عدوا محتملا>>( ).

فهل يجب بناءا على ذلك –يتساءل فيلسوفنا- التخلي عن السؤال "من نحن ؟" واستبداله بالسؤال "ما نحن ؟" الذي يجعلنا على مسافة متساوية مع الأنواع الأخرى لتفادي الطابع الجزئي،الحصري والاستبعادي إن لم نقل الاستئصالي وولوج الكلي ؟

ومن هنا ضرورة استبدال سؤال الماهية الدال بطريقة لا شعورية على فكرة الأصل أو الهوية المجردة،الصماء،المتعالية على التاريخ ،على الوجود "الآن وهنا" ،بسؤال الكينونة أو الوجود الراهن المحدد بإطاري الزمان والمكان.

إن السؤال "ما نحن ؟" الذي يأخذ في الاعتبار مفهوم "التعين" في الزمان والمكان،هو كذلك سؤال الكينونة "المنفتحة" منذ البداية على الوجود في العالم وعلى "الوجود مع الآخرين" دون تعارض أو تنافر.

هنا نجد المفكر الإنسانوي يستعيد السؤال الكانطي "من هو الإنسان ؟" ،بمعنى هل يمكن التفكير في الإنسان بمعزل عن العقيدة التعبوية للأيديولوجيين والسياسيين،والتي تختزل وجوده في عدد من الشعارات،والرموز التي تحمل بذور العودمة ونفي الآخر بالمعنى الذي نجده عند سارتر؟ <<في هذا السياق فإن إطار الهوية يترك محله لإطار الإنسانية وتأخذ إشكالية الغيرية طابعا ميتافيزيقيا >>ويضيف فيلسوفنا قائلا <<إن السؤال "ما نحن؟ " يتضمن تأملا ميتافيزيقيا وأخلاقيا لمنـزلة الإنسان،ويستهدف سائر البشر وهو ما يسميه كانط ب "الكلية الإخلاقية الجميلة في كل كمالها">>( ).

هنا نصل إلى ذروة النـزعة الإنسانوية في بعدها الكانطي الكوسموبوليتي عند فيلسوفنا.ومهما يكن مجال تلك الكلية الأخلاقية (الدولة أو الأمة أو المجتمع المدني أو الإنسانية جمعاء) فإنها لا تصل إلى كمالها وأفضل وجوداتها إلا بالحرية والمساواة أمام القانون،والتقسيم العادل للثروة داخليا على مستوى الكيان الواحد وخارجيا على مستوى الكوكب.

III- الهوية والحداثة:

تعالت الصيحات هنا وهناك منذ بعض الوقت بفشل مشروع الحداثة عندنا،وأخذ استراتجيونا ومفكرونا في تحضير البدائل الممكنة.إلا أن ذلك كله لا يعدو كونه مغالطة كبرى يراد منها أن تغطي على فشل الخطابات التي لبست ثوب الحداثة وتمنطقت بمنطقها.فنحن لم ندخل بعد عصر الحداثة لكي نتحدث عن نهايتها أو فشلها !

لهذا وضع فيلسوفنا الجزء الأكبر من الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة في إطار الهذر الضائع والميتافيزيقا الوهمية التي لا طائل من ورائها،لأنها حصرت نفسها في إشكالية وهمية،فأطلقت العنان للخيال،وأمعنت في الابتعاد عن الواقع مثل الأعمى الذي يبحث في غرفة مظلمة عن قبعة سوداء.لقد تركت تلك الخطابات مشروع التحديث معلقا بين <<قطبين متناقضين :الهوية من جهة والحداثة من جهة أخرى>> دون أن تكلف نفسها عناء البحث في شروط إمكان الفصل بينهما.

وقد رأينا في تحديد مفهوم الهوية أن الديناميكية والتطور،وقبول الآخر،تشكل عناصر مهمة في ذلك المفهوم << فالحداثة تعني أساسا حضور الذات في العالم،الحضور الديناميكي و الفاعل علميا وسياسيا >>( ).

ويقتضي خطاب الحداثة الانطلاق من واقعة مهمة هي ضرورة << ملء الفراغ الذي ما زال يميز حضورنا في العالم >>( ) ، فراغ يعزوه فيلسوفنا إلى غياب المعقولية في جميع أنماط التعبير الثقافي وفي أنماط العيش،وأساليب الحكم،كما يعزوه أيضا إلى العودة الأبدية للذات التي تتمثل في الإيمان الميتافيزيقي بفكرة الاتصال المطلق بين الثراء القديم الذي عرفته الذات ومستقبل مشرق ينتظرها ولو بعد حين.

صحيح أن ما عر ف بالحداثة يجد مرجعيته التاريخية والجغرافية في الغرب،إلا أن الحداثة مع ذلك ليست منتوجا غربيا صرفا بحكم الإسهامات الكبيرة الناجمة عن الانتقال المكثف لمعارف الشرق وعلومه وبخاصة العقلانية الرشدية،ومنهج الشك،وتأثيرات ابن سينا وابن الهيثم والبيروني والخوارزمي..في علماء الغرب وفلاسفته،وفي الثقافة اللاتينية بصفة عامة.لهذا السبب يكون << تعاملنا مع الحداثة كتعاملنا مع أنفسنا >> وتصبح الحداثة عندئذ << تأصيلا لكياننا وعنصرا مهما لتحديد هويتنا إلى جانب العنصر التراثي الذي يزيد تحضرا وتمسكا بكياننا وانفتاحا على الحضارات التي تحاذينا >>( ).

فالحداثة لا تتحدد باعتبارها خاصية للغرب،ولا يتم فرضها بقوة السلاح،فهي ليست حيزا صالحا للقرار فيه والنفاذ إليه إلا بقدر الممكنات الواسعة.إنها لحظة من لحظات << الزمانية وهي بهذا المعنى تتحدد دائما بالمقارنة مع الماضي والأزمة الغابرة >> ( ).لهذا السبب يظل مفهوم الحداثة خاليا من كل مضمون إذا لم يتم فصله عن الماضي.ومن هنا ضرورة نقد الأحكام المسبقة حول الحداثة ومن أهمها افتراض عدم التجانس بين طرق التفكير وأساليب العيش عندنا مع ما تحمله الحداثة من بدائل في هذا المضمار.

إن الحداثة هي عبارة عن مسار تراكمي طويل يبشر بتحرير الإنسان من الأغلال والقيود ويساعده في استكمال وجوده في مظاهره المختلفة.

إن القول بأن مثل الحداثة وهي التقدم والعقل والحرية والإنسانية،قد ولدت وترعرعت في الغرب في نهاية القرن الثامن عشر لا يتعارض البتة مع تأكيد "الطابع الكوني للحداثة" باعتبارها إرثا مشتركا ساهمت فيه سائر الثقافات بدرجات متفاوتة <<وبالفعل فإن النـزعة الكونية –كما كان ينظر إليها العقل الكلاسيكي- تشير إلى هذا الطابع الكوني للتاريخ >>( )،مع أنه لا ينظر إلى تلك الثقافات إلا باعتبارها مراحل موغلة في القدم للحضارة الغربية وبالتالي لا تخلو نظرته إليها من الدونية والنـزعة الاستعلائية والتمركز حول الذات في كثير من الأحيان .

لذا كانت نقطة البداية عند فيلسوفنا تتمثل في تصحيح أحكامنا حول الحداثة ،وإعادة النظر في الأحكام المسبقة حولها والتي تتعامل معها باعتبارها خاصية للغرب.من هنا نشأ العديد من ردود الفعل الهووية الصادرة في حقيقة الأمر من "مركبات النقص" في وجداننا وكياننا بسبب التأخر التاريخي.وبناءا على ذلك لا يجوز <<نقد مشروع الحداثة لأنه متصل بمركزية الغرب،ولا لكونه مناقضا لكياننا ومهددا لهويتنا>> << ففي الحداثة شيء من تراثنا وشيء من كياننا >>( ).



لقد أخذ مسار تحرير الإنسان في الحداثة الغربية أبعادا مختلفة :طبيعية واجتماعية وسياسية وفكرية ودينية،وهي الأبعاد نفسها التي ينبغي أن يأخذها نمط المعقولية عندنا والتي حددها المفكر الإنسانوي ( )في القضايا الآتية:

1- عقلنة الفكر العلمي:

نستطيع أن نميز في إطار العلاقة بين العقل والطبيعة في تاريخ الفلسفة بين مرحلتين:المرحلة الأولى وهي المرحلة اليونانية وهي المرحلة التي عرفت أول احتكاك للعقل مع الطبيعة،وكانت العلاقة بينها علاقة "سلمية" مدفوعة بدافع استكناه الطبيعة وفهمها لمعرفة العلة التفسيرية للكون.

بيد أن البحث عن العلة التفسيرية كان خاضعا لعدد من الشروط تحدد سقفا معينا للمعقولية يجب أن يصل إليه القول الشارح منها:

- أن لا يخرج عن نطاق الطبيعة "الفيزيس" :وهذا يعني القطيعة الحاسمة والنهائية مع "الميتوس" وكل تمظراتها في القول والسلوك.

- أن يحمل القول الشارح قوته البرهانية الذاتية المستمدة من انبنائه الداخلي : وهذا يعني القطيعة مع سلطة السلف.

- أن يعرض أمام الأنظار،مع ما يتضمنه ذلك من استبعاد للخوارق والغيبيات.

أما المرحلة الثانية لعلاقة العقل مع الطبيعة فهي مرحلة الحداثة وقد اتسمت هذه العلاقة بالصدام المباشر بين العقل والطبيعة لأن الإطار المعرفي الذي حكمها هو "السيطرة على الطبيعة"،و <<غزو العالم والهيمنة عليه>>.وهذا هو الشرط الثاني من الشروط المعرفية للانتماء إلى الحداثة بالإضافة إلى الشرط الأول المتمثل في الإرادة التأسيسية والقطع مع القديم مهما كلف الثمن.بذا يتحدد فكر الحداثة بأنه فكر قطيعة في المقام الأول،يقتضي وضع حدود فاصلة بين القديم والجديد،فكر المعقولية المستندة من جهة إلى الواقع (الفيزيس) في ثرائه وتنوعه،والمعرفة البرهانية القائمة على التجريب والاستدلال من جهة ثانية.

الذي حدث في السياق العربي الإسلامي ،ليس نكوصا عن مسار التجريب الذي دشنه ابن الهيثم والبيروني وغيرهم في العصور السابقة فحسب،بل انتكاس إلى نمط من "المعقولية" يكرس التقليد والجمود،ويناصب العداء للإبداع والابتكار.

أما في واقعنا الراهن فيكفي أن نتأمل في نسبة الإنفاق على البحث العلمي التي لا تكاد تصل إلى 1 % في الميزانيات العامة للدول العربية بحسب تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة لنعرف مدى الاهتمام بهذا الركن من أركان التحديث.وقد نجم عن ذلك الخلل أن تحولت المنطقة العربية إلى منطقة طاردة للعقول التي تشارك في الوقت الحالي في نهضة الآخر وتقدمه.وسواء عللنا ذلك بخلل ما في بنية العقل العربي من طبيعة انثروبولوجية ،أو بعائق إبستمولوجي هو احتقار العرب للتجربة بالمعني العلمي الدقيق،أو بقلة التجهيزات والمختبرات،أو بانحسار الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية ،أو بالعجز في مصادر التمويل ،فإن النتيجة واحدة :ضياع الركن الأساسي من أركان الحداثة وهو التحكم في العلم والتكنولوجيا.

2- عقلنة الفكر السياسي:

لم يكن مسار تطور الدولة في الغرب منفصلا عن مسار نشأة الفلسفة وتقدم العقل.يشهد على ذلك التداخل بين ظروف نشأة الفلسفة والفضاء العريض للمداولة والتشاور الذي ميز الحاضرة اليونانية،وحتى الدولة الأفلاطونة المثالية كانت تجسد نمطا معينا من المعقولية هو معقولية عالم المثل ،وأقامت نوعا من الموازاة بين العدالة في الفرد والعدالة في الدولة.

هذا التناغم بين نظام الفرد ونظام المدينة ونظام الكوسموس مثل نوعا من الانتظام الداخلي الذي أدى إلى جعل السلطة في الوسط مكرسا بذلك مفهوم "الإيزونوميا" أو المساواة أمام القانون.

هذا لا يمنع من الإشارة إلى حركة الاستبعاد والنفي التي طبعت الدولة اليونانية الديمقراطية ،الاستبعاد الذي طال الغرباء والنساء والعبيد (الذين كانوا يشكلون ربع سكان أثينا) الذين لم يكن يشملهم جميعا مفهوم المواطنة.

وعلى الرغم من ذلك فقد نجح اليونان في جعل الدولة ليس فقط عملا من أعمال العقل فحسب،بل الحيز الوحيد الذي يسمح للوغوس بالانبثاق والتمدد.هكذا كانت المدينة عند أرسطو تتصف << بصفتين:فهي كبيرة مزدهرة،كاملة،ومميزة إلى الحد الذي يتيح لقسم من المواطنين ،القسم القادر على استخدام الوسائل الخارجية،تحقيق حياته العقلية على الوجه الأكمل،وهي من ناحية ثانية على المستوى المؤسسي منظمة بحيث تتيح للوغوس – من حيث هو أداة للتواصل الكوني- الانسياب إلى السياسة بحيث يصبح قوة من قوى الحياة الاجتماعية >>( ).

تمثلت الثورة "الكوبرنيكية" التي قام بها مكيافيللي في مجال السياسة في << وضع الأساس النظري للفكر السياسي اللاحق وبخاصة لنظرية العقد الاجتماعي من خلال بحثه عن شروط السياسي في الطبيعة الإنسانية ذاتها من جهة،ومن خلال عقلنة السياسة وعلمنتها من جهة ثانية >>( ).أما نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز فقد تمثل إسهامها الأكبر في "الفصل بين رأسي النسر" كما يقول ويعني بذلك السلطة الزمنية والسلطة الروحية وذلك بوضع حد لنظرية "الحق الإلهي" المناقضة لعقلانية التأسيس السياسي لأنها تؤسس لأولية الروحي على الزمني على نحو ما نجده عند بوسييه من جهة؛ ولنظرية "الحق الطبيعي" التي تؤسس أولية الطبيعي على التاريخي،وأولية الحق على القانون (العقل) على نحو ما نجده عند غروتيوس وبفاندوروف ( ).

هكذا تتحدد عقلانية التأسيس السياسي في ضوء ثلاثة أصناف من التعارضات:

- بالتعارض مع التوحش والبربرية، والعنف الذي يؤسس للكاووس.

- بالتعارض مع الانتماءات القبلية والولاءات العمودية أي مع الأشكال السابقة للتواجد المدني.

- بالتعارض مع نظرية "الحق الإلهي" والملكية الاستبدادية.

أما الوعي السياسي عندنا فما يزال في مرحلة ما قبل الدولة أو تلك الكلية الأخلاقية- القانونية التي تنصهر فيها الذاتيات،ويسوسها العقد الاجتماعي الذي يحدد المجال الخاص لممارسة الحرية.إن الدولة عندنا ما تزال إما ملكية وراثية،أو عشائرية،أو أوليغارشية كليانية.

3- عقلنة القول الديني:

يؤرخ لهذا الحدث عادة بحركة الإصلاح الديني التي نشأت في أوروبا في بدايات عصر النهضة على يد لوثر وكالفن.بيد أن عقلنة القول الديني إذا كان يقصد بها <<قراءة النص الديني وفهمه عقليا وتفسيره من خلال معطيات العصر>>( )،فهي قديمة وجدت في الشرق الإسلامي في العصر الذهبي للدولة الإسلامية إبان حركة الترجمة والانفتاح على علوم الأوائل ،وظهور بعض المدارس الدينية كالمعتزلة التي التزمت العقل منهجا ساعدها في ذلك الانبناء العقلاني – البرهاني للنص الديني ذاته أو في بعض جوانبه على الأقل.

ولم تقتصر عقلنة القول الديني في السياق العربي الإسلامي على المتكلمين فحسب بل كان للفلاسفة أيضا كلمتهم في هذا المضمار.فعندما صاح ابن رشد قائلا بأن "الحق لا يضاد الحق"،كان صوته مسموعا في محيطه الجغرافي (الأندلس) التي مثلت حينها عاصمة الثقافة العالمية جمعت الطلاب من كل حدب وصوب ومن هؤلاء من كان له شأن فيما يسمى بالحروب الصليبية وحركة الاستشراق وبداية الانبعاث في الغرب.فكانت العقلانية الرشدية هي الأمل الذي تعلق به فلاسفة الغرب ،والشعاع الذي اخترق الظلام الدامس الذي عم أوروبا ردحا من الزمن،وانتكس العرب والمسلمون إلى عهد أشبه ما يكون بمرحلة ما قبل التدوين، وتباعدت الحدود الجغرافية والذهنية،وزادت الشقة بينهم وبين الآخر فأنكرهم وأنكروه،ودارت الدائرة على العقل،واستدار الزمان.

هكذا يتضح أن العقل والمعقولية ،والانفتاح والتنوع - وهي الوسائل التي حصلت بها القوة في الماضي – هي نفسها عوامل النهضة في المستقبل وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بانفتاح الهوية على الوجود في العالم .فحاجة الأمة إلى الفلاسفة في الوقت الحالي أكثر من حاجتها إلى الشعراء.

وبناءا على ذلك يمكننا حصر عناصر توطين الحداثة أو بالأحرى تأصيلها في الوطن العربي والعالم الإسلامي طالما أنها بعد تاريخي من أبعاد كينونتنا فيما يلي:

1- استعادة التاريخانية الضائعة وتجسيدها من خلال الحضور في العالم وذلك بتعديل جذري في نظرتنا إلى ذاتنا وإلى الآخر.

2- رفض أيدولوجيا الارتكاس ومغالطة الهوية في الآن ذاته النابعتين من نزعة هووية تمجد حضور العدم.

3- بناء نمط خاص من المعقولية يساعد في الإبداع والاختراع على الصعيد العلمي،ويعين على تجاوز الأشكال السابقة على الدولة أو التواجد المدني على الصعيد السياسي،ويؤدي إلى إخراج اللوغوس من أزمته التاريخية وجعله يسكن من جديد جميع أنماط التعبير الثقافي بشكل عام والقول الديني بشكل خاص لكي يجعل أبعاد الهوية متجانسة وقابلة للاستمرار.

IV- الهوية في ظل العولمة:

كل ما يمكن قوله عن العولمة في هذه المرحلة هو أنا نشاط معين أساسه التنوع ومجاله هو كوكبنا بأسره.وسواء نظرنا إلى هذا المفهوم من حيث المعنى،أي من حيث حقوله الدلالية المختلفة،أو من حيث مجال عمله الذي لا يستثنى ذرة تراب واحدة من الكون بأقطابه الأربعة،فإننا سنخلص إلى النتيجة نفسها :الإرادة الشمولية التي هي - بغض النظر عن طبيعتها- إرادة واعية تماما بحدود ممارستها.

ولعل أول ما تتميز به العولمة،باعتبارها ظاهرة كونية،هو أنها تمتاز بالراهنية الدائمة،وتتمنع على الطرح الأحادي بحيث لا يمكن مقاربتها بالتركيز على الجانب الاقتصادية أو الفلسفية وحدها بل تتدخل في ذلك اعتبارات جغرافية وسياسية وبيئية.

بيد أن الميزات التي تعتبر أكثر التصاقا بهذه الظاهرة الكونية هي على وجه الخصوص:

1- سرعة انتقال المعلومات وكثافتها،بحيث أصبح العالم قرية واحة على حد تعبير عالم الاجتماع الكندي مارشال ماك لوهان.

2-تعميم أنماط الاستهلاك الثقافي الاقتصادي والإعلامي والقيمي الصادرة عن المتروبولية الدولية والتي تهدف في المقام الأول إلى إعادة موضعة الجماعات المختلفة ضن الفلك الجديد أي ضمن حدود تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا.

3- تفتيت وحدة الدولة القومية ودك "حصونها" ثقافيا بالقضاء على الثقافة الأصلية أو المهيمنة لإفساح المجال للثقافات الفرعية ؛ وإعلاميا من خلال فضح بعض الممارسات وتعريتها.

ويمكن مقاربة مفهوم العولمة من خلال ما يمكننا تسميته ب "العقلانيات الثلاث" التي عرضها فيلسوفنا على النحو الآتي:

- "عقلانية حسابية":مجالها المبادلات الاقتصادية على مستوى الكوكب.

- "عقلانية أدواتية":مجالها التقنيات والاتصال.

- "عقلانية عنفوانية ":مجالها السياسة والعلاقات الدولية ( ).

وبناءا على ذلك تأخذ العولمة أشكالا متعددة نوجزها فيما يلي:

1- العولمة الثقافية: تستهدف تعميم أنماط التعبير الثقافي الصادرة عن المتروبولية الدولية في مجلات الإعلام والفن والفلسفة والعلم..

2- عولمة اقتصادية:تكمن في اتباع الأساليب اللبرالية في الإنتاج أو ما يسمى باقتصاد السوق.وإذا كان هذا النوع هو أكثر أنواع العولمة إيجابية إذا ما أحسن التعامل معه إلا أن "الكلفة الاجتماعية" المترتبة عليه تقلل بالفعل من فاعلية هذا النظام.

فقد تلاشت بالفعل <<مثل العدالة والمساواة والاستقلال،والآفاق الروحية للإنسانية،ومشاريع السعادة والتعايش تاركة محلها ل "نموذج" الاستهلاك لعدد متنام من المنافع المادية موزعة بشكل سيء >> ( ).فقد أدى التوزيع غير العادل للثروة على الصعيد العالمي إلى تكوين بؤر للفقر في أماكن معدودة من المعمورة أصبحت شيئا فشيئا تغذي ردود الفعل الهووية في أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا الساعية إلى البحث عن بديل آخر للعولمة الاقتصادية << فقد أعادت اللبرالية الاقتصادية المعممة تشكيل المخيلة الاجتماعية والمثل المشتركة ،والتمثلات الثقافية ،كما أنها زادت علاوة على ذلك من تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والثقافية الحالية دون أن تتمكن من رسم مرجعيات أيديولوجية وقيم اجتماعية جديدة >>( ).تلك هي إحدى مفارقات العولمة التي قضت بالفعل على البنيات الاجتماعية التقليدية وأنظمة الرعاية والضمان الاجتماعي – على ما تنطوى عليه من موروث سلبي- واستبدلتها بسلطة السوق القائمة على عقلية الربح والنـزعة الفردية التملكية l'individualisme possessif التي لا تبقى ولا تذر.

صحيح أن تعميم نموذج اللبرالية الاقتصادية وتحرير المبادلات على مستوى الكوكب قد ساهم في زيادة فرص العمل وتحسين الظروف الاقتصادية لبعض الدول وخاصة في جنوب شرق آسيا من خلال ما يعرف في أدبيات التنمية ب "تصدير التجربة" وتوطين الخبرة التراكمية للشمال في مجال الصناعات والتكنولوجيا والمنظومة الحقوقية المتعلقة بالعمل والإنتاج ،إلا أن العولمة اللبرالية قد انعكست في المقابل في اتساع غير مسبوق للهوة بين الشمال والجنوب من خلال علاقات إنتاج رأسمالية غير متكافأة داخليا وخارجيا.

3- عولمة سياسية:متمثلة في تثبيت دعائم الديمقراطية اللبرالية على النحو الذي كشف عنه الفيلسوف فرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ".وتتمثل العولمة السياسية من الناحية الشكلية في حرية الأحزاب،وتنظيم انتخابات دورية..

4- عولمة قووية: (نسبة إلى القوة) يتحدد فيها الحق بمعيار القوة ،والتلويح بها ،واستخدامها في أحيان عديدة ضد كل من تسول له نفسه الشذوذ على القاعدة .هذه العولمة القووية ،العنفوانية هي تعبير عن هوس النظام الذي يضرب سائر الأمكنة بالتوازي،ويقضي على كل منطقة عاصية ،ويسعى إلى تدجين كل الفضاءت المتوحشة جغرافيا وذهنيا.

وبالفعل أدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى قيام قطبية أحادية تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية مسكونة بهوس السيطرة ،وتحول العالم من جراء ذلك من "قوة التهديد" التي طبعت الحرب الباردة إلى "التهديد بالقوة" ( ) واستعمالها الذي بات أكثر التصاقا بديمقراطية ما بعد الكليانية.

إن الحروب المعلنة على الإرهاب ،بما في ذلك حروب العراق وأفغانستان،إنما تهدف في المقام الأول ،بغض النظر عن الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية إلى القضاء على كل منطقة عاصية ،وإلى توطين كل الفضاءات التوحشة جغرافيا وذهنيا.من هنا ينبع ما يسميه جان بودريار ب "عنف العولمة" الذي يطارد كل شكل من أشكال السلب والفردنة ويستوعبه ( )،إنه عنف يؤسس للكاووس لأنه <<يعمل جاهدا على خلق عالم متحرر من كل نظام طبيعي سواء أكان ذلك النظام نظام الجسد أو الجنس أو الموت أو الحياة ،إنه أكثر من عنف،إنه هوس محموم >>( ) ينتقل بالعدوى بشكل مرعب،ويأتي شيئا فشيا على كل أصناف المناعة لدى الثقافات وعلى قدرتها على المقاومة.

إن الأمر لا يتعلق يقول جان بودريار <<بصدام للحضارات بل بتطاحن عميق يكاد يكون انثروبولوجيا بين ثقافة كونية لا تعترف بالفوارق ،وبين كل ما يحتفظ في مجال معين أيا كان بذرة من الغيرية التي لا تقبل الاختزال >>( ).

هذا البعد القووي العنفواني للعولمة يضعها على نحو ما في خانة واحدة مع الأرثودوكسية الدينية إذ كلاهما <<يعتبر سائر أنماط الاختلاف والتفرد نوعا من التجديف يجعل تلك الأنماط مرغمة إما على الدخول طوعا أوكرها في النظام وإما على الانحلال >>( ) فهل يمكن اعتبار ذلك تحقيقا لأحلام الطوباويين مثل توماس مور وكامبانيلا في قيام عولمة دينية تتمثل في الكتلكة أو "فكرة العالم المسيحي الموحد" من خلال <<إنشاء امبراطورية عالمية إسبانية- بابوية >>( ).

العالم يعود إلى المرحلة الأولى،حكم العمالقة و العصر البطولي كما يقول فيكو،إلى بربرية جديدة ،لا كالبربريات القديمة،بربريات المستوحَش المستهجَن بل "بربرية سمحة" يرعاها سدنة اللوغوس.

5- وعندما تلغي المصانع الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية ،وهي التي تتموضع من منظور التنمية والتخلف في أقصى الشمال،بأبخرتها في الجو ،يكون رد فعلها المدوي والعاصف واضحا في بنغلادش في شكل ظاهرة متكررة من الفيضانات التي تهدد كيان هذا البلد وغيره من الدول الكائنة في أقصى الجنوب.ألا يكفى هذا للحديث عن شكل آخر من أشكال العولمة هو العولمة البيئية ؟



وقد كان من الطبيعي أن يؤدي التأحيد أو قوة المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب أو << تلك العقلانية الحسابية الأدواتية،العنفوانية إلى قيام ردود فعل من النوع الهووي ،وإلى مقومات وطنية تتمثل في تنامي النـزعات القومية (...) وانبعاث الخصوصيات والنـزعات الإقليمية والجهوية ،واشتداد وطأة التعصب والتطرف،وصحوة الخطابات الدينية- السياسية ،وتضاعف الاعتداءات العنصرية ،والكراهية العصبية،وظهور سياسات داخلية وخارجية قائمة على القوة >>( ).

إن تفجر الدعاوى المطالبة ببعث الهويات ،هو على نحو ما شكل من أشكال "عودة المكبوت" ،فقد اجتثت "الآلة الحية الكونية" –كما يقول لا توش- كل ما يعلو سطح الأرض لكنها طمرت البنيات الكبرى،واحتفظت دون وعي منها بأساساتها المتمثلة في ذلك الطموح الذي لا يمكن اجتثاثه :التطلع إلى الهوية ومنها إلى التذويت.ويمكن التعرف في ذلك التأحيد أو المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب على جذور الثقافات التي تعرضت للإذلال وديست بالقدم،والتي تنتظر الفرصة السانحة للظهور من جديد ،ظهورا – يقول سيرج لا توش- قد يكون هذه المرة فتاكا ومرعبا.

إن تلك الثقافات المكبوتة المسكونة هي الأخرى بالحنين إلى الثراء القديم واسعادة تاريخانيتها الضائعة ،والتي لم تجد مكانها الضروري في العالم نظرا لإيقاعها المنخفض ،لم تجد الاعتراف بحقها المشروع في الوجود لمغايرتها الجذرية،ستعود لا محالة من جديد،وستجد فرصة للانبعاث فطائر منارفا لا يبدأ في التحليق إلا عند الغسق.

إن ردود الفعل الارتكاسية على إخفاق وتائر التنمية واسراتيجياتها،والدعوات الكثيرة إلى بعث الهويات القومية والدينية ،ومقاومة التأحيد والمشاكلة الكونية،بدأت بالفعل تأخذ أشكالا مختلفة أكثر عنفا وأشد تجذرا أكثر من أي وقت مضى.وكان من نتائج ذلك أن انقسم العالم إلى عوالم ثلاثة أو عولمات ثلاث هي حسب سيرج لا توش ( ):

- العولمة الحالية وهي عولمة أمريكية تتقاطع كما رأينا في الكثير من جوانبها مع العولمة الدينية المتمثلة في فكرة الكتلكة أو العالم المسيحي الموحد عند كابانيلا وتوماس مور.

- العولمة الإسلامية : وتتمثل حسب اعتقاده في "التدبير التيوقراطي للدولة" وفي "أسلمة الحداثة"،وفي <<مشروع إعادة توحيد للجسم الاجتماعي على أساس وحيد هو الرابطة الدينية المجردة مع محو كل الحدود الجغرافية الأخرى >>( ).

- العولمة الاجتماعية الديمقراطية التي يدعو إليها مناهضو العولمة.

يقول سيرج لا توش <<إن الدين الذي أطر كبت ضحايا تهميش الحداثة ،والذين خاب أملهم في المشروع النهضوي الناصري والبعثي الاشراكي العربي،هو عبارة عن عقيدة مجردة ،صارمة وكونية >>ويضيف قائلا <<وهكذا وجدت النـزعة الكونية الغربية نفسها في مواجهة نزعة كونية أخرى في مثل قوتها قائمة على رد الفعل >>( ).

ومثلما وجدنا في الكتلكة مشروعا كونيا لتأسيس "مدينة الشمس" عند كامبانيلا، فإن التيار الأصولي << الذي اكتسح المجال الذي هيأته في العالم العربي التيارات العروبية بشقيها البعثي والناصري >>( )،يسعى في الوقت الراهن إلى وضع اللبنات الأولى "لعولمة أخرى" بديلة بدأت بوادها تلوح في الأفق.

إلا أن الأمر في نظر لا توش لا يتعلق بمشروع مختلف من حيث الجوهر <<فمناهضة التغريب عند ذلك التيار إرادة معلنة ،لكنها لا تصل إلى حد التشكيك المطلق في جدوى الرأسمالية.فالتدبير التيوقراطي للدولة هو تحريف للحداثة أكثر منه مشروعا مختلفا عنها اختلافا جذريا،وبالتالي فإنه يتضمن رفضا للميتافيزيقا المادية الغربية إلا أنه بحاجة إلى الإبقاء على "قاعدتها المادية" وعلى الآلة بشكل أخص>>( ).إن الأصوليين الجدد يقول أوليفييه روي <<هم أولئك الذين تمكنوا من أسلمة العولمة عندما رأوا فيها إرهاصات إعادة بناء مجمع إسلامي كوني وبطبيعة الحال شريطة عزل الثقافة المهيمنة :التغريب في ثوبه الأمريكي،لكنهم لكي يقوموا بذلك فإنهم لا يصنعون سوى كلي على غرار الكلي الأمريكي يحلم بالتوصل إلى "ماكدو حلال" أكثر من حلمه بالعودة إلى موائد الخلفاء الحقيقيين القدامى>>( ).



هذا النقد المزدوج للعولمة بما هي أمركة،وبما هي <<عقلانية حسابية- أدواتية،وعنفوانية >>( ) قووية من جهة،وبما هي تحريف للحداثة ،ونزعة ارتكاسية قائمة على <<رد الفعل من النوع الهووي>> هو الذي ألهم المفكر الإنسانوي ووجهه إلى البحث عن استراتيجية جديدة للهوية في إطار الجدلية المزعومة بين الهوية والعالمية،استراتيجية تستلهم العبر من التاريخ دون إعادة إنتاجه.وبالفعل فقد <<استطاع الإسلام ،في الفتوحات التي قام بها، إعادة تنظيم المجتمع الإسلامي مع المحافظة على ما هو جوهري في مضمونه الحضاري ،لكنه لم يمح آثار الثقافات الأخرى وأنماط العيش المغايرة له>>( ).

ومن هنا يمكننا الحديث عن عولمتين إسلاميتين:

- العولمة الأولى هي التي حدثت حول منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى في العصور الوسطى ،وكانت قائمة على نوع من التجانس والتكافؤ،والتبادل الإيجابي،وإقرار الاختلاف،و الانفتاح على الآخر وتجربته الحضارية.وهي على الرغم مما شابها من بعض ردود الفعل الهووية المتمثلة على سبيل المثال في الحركة الشعوبية ،إلا أنها كانت إجمالا عولمة متكافئة بما تضمنته من قيم التسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر فكانت الحاضرة الإسلامية بالفعل عالما مصغرا يجمع بين حضارات الشرق الأقصى وبلاد الفرس،والحضارة الهلنستية وتراث العرب و البربر في شبه الجزيرة وشمال إفريقيا،ونجم عن ذلك تبادل للإنتاج المادي والرمزي في كل الاتجاهات.

أما العولمة الأخرى فهي التي تحدث عنها سيرج لا توش ،وهي علاوة على التناقض الذي تحمله في طياتها والذي يتمثل في "التحديث بدون حداثة" كما يقول،استبعادية لا تعرف التسامح.<< لقد أدت ردود الفعل الهووية والارتكاسية هذه إلى نشأة خطاب أيديولوجي جديد يرتكز تارة على أيديولوجيا دينية تعبوية ،وتارة على الشعور بالانتماء العرقي،وتعتمد تارة أخرى على نزعة قومية كليانية ،ويتغذى هذا الخطاب من اليوتوبيا الشعبوية المقرونة بشيطنة الآخر وتبرير استبعاده >>( ).

هنا نجد نوعا من تجربة "مسح الطاولة"عند الفيلسوف لأنه يحل كل الخطابات العربية المعاصرة في خانة "حضور العدم" طالما أنها عاجزة عن الانطلاق من الوجود "الآن وهنا".

لكن السؤال الأعمق الذي يعبر عن عمق المساجلة والنقد المزدوج عند المفكر الإنسانوي هو: << أليس من الضروري أن نحدد موقعنا في تيار العولمة الذي يميز عصرنا لكي نتفادى في الوقت ذاته الوجود الأحادي وتأحيد الوجود ؟ >>( ).

إن حل هذه المعضلة يتمثل في إعادة التفكير في الهوية في إطار المعطي الجديد الذي هو العولمة فلا يكون مطلب الهوية والخصوصية الثقافية عندنا سببا للانكفاء على الذات،ولا تؤدي بنا المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب إلى التلاشي والذوبان وهذا يتطلب "إعادة صياغة هويتنا"( ) لتتأقلم مع معقولية العلم والتكنولوجيا،ولتخضع لمتطلبات الثقافة النقدية:باختصار أن نصبح جزءا من العالم.

وطالما أن العولمة ليست خيرا محضا ولا شرا محضا فإننا مطالبون بالتعاطي الإيجابي معها وذلك ببلورة استراتيجية ذاتية تأخذ في الحسبان الخصوصية الثقافية المرنة والديناميكية مع الوعي في الوقت ذاته بمخاطر العزلة والانحسار ضمن الحدود الضيقة للدولة القطرية.







المصادر والمراجع:

1- Fathi Triki , La Stratégie de l'identité,Editions Arcantères ,Paris ,1988.

2- Fathi Triki, Les philosophes et la guerre,Editions Bairuni,Tunis,1985.

3-Serge Latouche, L'occidentalisation du monde, La Découverte, Paris,2005.

4-Gianni Vattimo, La fin de la modernité ,nihilisme et herméneutique dans la culture post-moderne,Trad.Charles Allunni,Ed.Seuil,Paris,1987.

5- Jean Baudrillard,"La violence de la mondialisation",Le

Monde diplomatique ,novembre 2002,p.18.

6-Mxime Rodinson, "La peste communautaire",Le Monde ,1er décembre,1989.

7- فتحي التريكي،رشيدة التريكي،فلسفة الحداثة،مركز الإنماء القومي،بيروت،1992.

8- فتحي التريكي،العقل والحرية،تبر الزمان،تونس،1998.

9- فتحي التريكي،الفلسفة الشريدة،مركز الإنماء القومي،بيروت،بدون تاريخ.

10- فتحي التريكي،قراءات في فلسفة التنوع ،الدار العربية للكتاب،1998.

11- جياني فاتيمو،نهاية الحداثة،الفصل التاسع :"التأويلية والانثروبولوجيا"،ترجمة البكاي ولد عبد المالك،مجلة فضاءات ،دار الأصالة والمعاصرة،العدد 21-22، سنة 2005،ص ص 50-67.

12- جياني فاتيمو،نهاية الحداثة،الفصل العاشر: "العدمية وما بعد الحداثة في الفلسفة"،ترجمة البكاي ولد عبد المالك، مجلة فضاءات ،دار الأصالة والمعاصرة،العدد 19-20، سنة 2005،ص ص63-79.

13- ماكس هوركهايمر،فلسفة التاريخ البرجوازية،ترجمة محمد علي اليوسفي،دار التنوير للطباعة والنشر،بيروت،1989،ص 66.

14- البكاي ولد عبد المالك،"المجتمع المدني،الدولة والسوق"،مجلة دراسات،العدد 24،2005 ص ص37-66.

15- البكاي ولد عبد المالك،لوغوس كاووس أو تغريب العالم في زمن العولمة- حدود الهوية وآفاق التعايش،مجلة فضاءات ،العدد 31-32سنة 2007.







بحث مقدم في ندوة علمية دولية نظمتها جامعة قار يونس -كلية الآداب- 2004 منشور في مجلة فضاءات للثقافة والنقد- دار الأصالة والمعاصرة- طرابلس - ليبيا


لوغوس/ كاووس : حدود الهوية وآفاق التعايش - دراسة تحليلية نقدية لآليات الهيمنة الثقافية ([1]) :
أ.د.البكاي ولد عبد المالك / أستاذ الفلسفة المشارك بالجامعات الليبية
 تمهيد :
<< ما لا أعرفه هو ما إن كان تفكير الأسواق صحيحا أم لا،ولكن ما أعرفه هو أننا لا نستطيع أن نفكر ضد الأسواق>> آلان مينك:
Alain Minc, Le Monde diplomatique ,  juin 1997 pp.16-17  

<< قديما كنا نموت من الجوع ،أما الآن فقد أصبحنا نموت لأننا نأكل "أغذية" ملوثة>>
إغناسيو رامونيه:
Ignacio Ramonet, Le Monde diplomatique , Octobre, 2003, pp.1-26

<< إن مهمة الغرب – أو بالأحرى الغرب القديم لأنه لم تعد له قيم منذ أمد بعيد ـ هي إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة المفترس .فالثقافة التي فقدت قيمها ليس في وسعها إلا أن تنتقم من قيم الآخرين>>
Jean Baudrillard ,la violence de la mondilisation, Le Monde diplomatique ,Novembre, 2002, p. 18. (texte tiré de son nouvel essai: power inferno, Galiee, Paris ,p.12.

مقدمة :
بين التأريب والتغريب والعولمة، تنتصب عقدة الأصل الغائر المنسي في عتمة الزمن الرديء.  تلك هي لعبة التاريخ الكبرى، مكر العقل، أو "الفكرة الشاملة" التي تستخدم البشر والأشياء لتحقيق غاياتها.
الفلسفة تصعد مجددا الطموح إلى المطلق، دون أن يتعارض ذلك مع الحنين إلى الأصل. العالم/ الغرب يحيي طموحات هيغل، في حين لم يتخلص بعد من هول الصدمة التي ولدها أكبر حدث في تاريخه حتى الآن : "حدث نسيان الكينونة"(هايدغر).
العالم يعود مجددا إلى "الأصل" الذي انبثق منه، إلى الكاووس، إلى العدمية النافية للجوهر أو الحقيقة الموضوعية الموجدة للقيم . إنه يخرج من الفعل إلى القوة ضمن صيرورة ارتكاسية تتدحرج من الوجود إلى الإمكان، أليس الإمكان أسمى من التحقق الفعلي؟
الكاووس في القاموس الإغريقي هو الانغماس في << فضاء من التيه اللامحدود، أو الانحدار في هاوية لا تنتهي>> ([2]) أما الكاووس في معناه الشائع في الوقت الراهن فهو العنف واللانظام . إنه ، بمعنى آخر، اللامعقولية. إنه استحالة العثور،في وضع معين،أو ظاهرة ما بعينها، على مؤشرات تعين على الاهتداء أو الفهم . إذن ما النظام ؟ وما المعقولية ؟ ..لا يهم.
الأصل "المنسي" ، قدر مسبق للغرب التاريخي . التشميل، والتأحيد  و "المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب" أضحت ،على ما يبدو،من أبرز سمات العالم برمته في الحقبة الراهنة. إنها قدر مسبق . تاريخ العالم/الغرب هو ذاته تاريخ العقل ([3])،إنه عبارة عن استضاءة عقلية متدرجة للوعي، وإضفاء لطابع المطلق على العقل ([4]).
العولمة "حالة" يصار إليها، إنها الممكن أو المطلق المتحول الذي يجرب سائر الموضوعات باحثا عن الشكل المادي الذي يناسبه : عولمات.
عندما صاح هيغل بأنه رأى المطلق يمتطي صهوة جواده لم يكن يخطر بباله أن ذلك "اليقين" لم يكن سوى لحظة أولى من "انبجاس الحدث"، مجرد استضاءة عقلية لا غير، لأن << الكلي هو عبارة عن فكرة عندما تتحقق في "العالمي" فإنها تنفي ذاتها وتقضي عليها كفكرة>> ([5]).
أليس حريا بنا أن نتساءل عن ذلك "الخلل" الذي يدفع العالم إلى تجريد الفكرة، وعن ذلك الخلل الآخر الذي يدفعه إلى التحقيق اللامشروط لها ؟ هل العولمة هي القدر الوحيد المسموح به ؟ إذن ما العولمة، وما صلتها بالغرب ؟ هل يمكن اعتبارها عرضا من أعراض "أزمة اللوغوس التاريخية" ؟ ما الغرب ؟ أهو مجرد "صورة خيالية" نشأت من "تضاعيف أسطورية" عبر مسار طويل من التجريد، أم هو حقيقة موضوعية نجمت عن ظروف تاريخية محددة ؟ بتعبير آخر هل للغرب وجود آخر غير تلك "الصورة" المصطنعة في مخيال الشرق؟ وإذا اعتبرنا الغرب "حيزا لا يمكن العثور عليه" ،وهو بهذا المعنى ضرب من ضروب الكلي، فهل يمكن فصله عن الجزئيات التي تكونه ؟ هل يوجد شيء آخر غير الكلي ؟! هل يمكن مقاربة مفهوم الغرب بمعزل عن جدلية الذات والآخر،أي بمعزل عن التاريخانية الضائعة والتاريخ الواقعي المسيطر؟!

أولا- الهيمنة الثقافية :التحليل الإجرائي للمقولات الرئيسية:
يبدو أن التحليل الإجرائي للمقولات الأساسية،والإرهاصات الأيديولوجية التي ساعدت في تشكل نمط معين من "السستمة" ،قد يساعدنا في إدراك أبعاد تلك الإرادة الشمولية. من هنا ضرورة إعادة التفكير في التاريخ، بما في ذلك تاريخ الأفكار،في ضوء الهيمنة و"إرادة القوة". تلك هي بداية أزمة اللوغوس التاريخية التي كشف عنها نتشه في بداية الأمر من خلاله مفهومه "للمرض التاريخي" للغرب، وقراءته لمشروع الحداثة بما هو    << محصلة نهائية للميتافيزيقا والأخلاق الأفلاطونية والمسيحية>>([6]).
والحقيقة أن "التقدم" و"الحداثة"و "التحديث"و"ما بعد الحداثة"و"العولمة" كلها لم تكن مجرد مراحل تاريخية أو تححقات آنية في صيرورة العقل والثقافة بوجه عام، وإنما كانت بمثابة شروط إمكان ضرورية أدت إلى تشكل ذلك النمط الموحد من التفكير ، الشرط الأيديولوجي للتأحيد والسستمة.
1- التقدم:
على الرغم من أن التقدم مقولة أنوارية نشأت مع فولتيير ومونتسكيو وديدرو،إلا أنها كانت بمثابة "البراديغم" الذي متحت منه الخطابات الأنثروبولوجية والاجتماعية والنفسية - على نحو ما رأينا في الفصل السابق-  شرفها باعتبارها خطابات علمية.
وتفترض هذه المقولة من حيث المبدأ أن سير الحضارة هو سير خطي في اتجاه واحد. فالحضارة البشرية تسير قدما إلى الأمام في خط مستقيم . وهذا يعني أنه لا يجوز الحديث عن حضارات متعددة تمتلك وسائل مختلفة من التعبير الثقافي، وإنما هناك حضارة واحدة وإن تفاوتت مستوياتها. إن ما يسمى ضمن هذه المقولة بـ"المجتمعات البدائية" أو "الحضارات البدائية" لكي تتقدم لا بد لها من أن تسلك نفس المسار الذي سلكته الحضارة الغربية ، وهذا يعني أنها لن تصل أبدا إلى نفس المستوى أو الاقتراب منه لسبب بسيط هو أنه في الوقت الذي تضاعف فيه تلك "الأشكال البدائية" من الاجتماع والشعور والتمثلات للحاق بالحضارة "الأم" تكون هذه الأخيرة قد خطت خطى جديدة، واحتفظت لنفسها بالتالي بمسافة حضارية هي نظير التفوق والمركزية الكونية.
وقد رأينا أن تلك هي النتيجة التي انتهى إليها أنصار نظريات التنمية في أواسط القرن الماضي، وخصوصا القائلون بنظرية التبعية  والخصوصانية .<< إن فلسفة التاريخ التي خططت بهذا الشكل هي، في الواقع، تفكيك لميثولوجيا الحداثة البرجوازية >>([7]).
2- الحداثة:
حدد هابرماز مرتكزات الحداثة في دلالتها الشاملة فيما يلي :
1- التقدير الإيجابي النقدي للعقلانية وتطوراتها ومظاهر نموها.
2- الإيمان العميق بالديمقراطية والثقة فيها.
3- الإيمان بجوهرية بعض القضايا الإطيقية كالعدالة والحرية.
أما التحديد النقدي للحداثة فهو الذي نجده عند نتشه وهايدغر ويكمن أساسا في فكرة "العود الأبدي" عند نتشه . ويكمن القاسم المشترك بين الفيلسوفين على الرغم من وجود اختلافات لا يستهان بها في << وصفهما للحداثة بأنها خاضعة لهيمنة فكرة معينة لتاريخ الفكر تظهر من خلال استضاءة عقلية متدرجة و ذلك على أساس نوع من التملك وإعادة التملك "للأسس" التي ينظر إليها  في بعض الأحيان على أنها "أ صول" أكثر اكتمالا على الدوام من غيرها ، لدرجة أن الثورات النظرية والعملية في التاريخ الغربي يتم تقديمها وتبريرها في أغلب الأحيان على أنها "استعادة" ونشأة متجددة  وعودة  للشيء         نفسه >>([8]).
لهذا لم تكن مقولة الحداثة بمنأى عن النقد عندما رأى فيها البعض عرضا من أعراض الانحطاط، وتجذيرا "للمرض التاريخي" فقرأ فيها نتشه، قبل هابرماس وآدورنو، بوادر التأحيد، و"منطقية العقل الموحد"، فدعوا جميعا إما إلى تفكيكها بتعميق نزعاتها الخاصة ذاتها (نتشه) وإما بمقاربتها "مقاربة سلالية" تعمل على تشخيص عوارض أزمة اللوغوس التاريخية (مدرسة فرانكفورت) . لقد أصبحت الحداثة في نهاية الأمر عبارة عن         << توحيد نمط العيش بحسب أنموذج الحياة الغربية>> ([9]).
3- ما بعد الحداثة:
تتحدد "ما بعد الحداثة" من الناحية الزمنية بأنها كل ما يأتي بعد "الحداثة" سواء فيما يتعلق بنظام الأفكار أو بأشكال التنظيم السياسي والإنتاج الاقتصادي وهي من هذه الزاوية مؤذنة بـ "نهاية الحداثة" (la fin de la modernité) لأنها ثورة على فكر الحداثة على نحو ما حدده جياني فاتيمو في مؤلف يحمل نفس العنوان .
ويرى فرانسوا ليوتار أن الحدود بين الحداثة وما بعد الحداثة لا تزال غير واضحة المعالم وذلك للغموض  الذي يتضمنه مفهوم ما بعد الحداثة التي توحي بتجربة موت العقل والتي تعبر في الواقع حسب رأيه عن نهاية مشروع تاريخي هو مشروع الحضارة اليونانية- الغربية. لذلك نظر ليوتار إلى ما بعد الحداثة من زاويتين مختلفتين : فهي من جهة تدل على نهاية الحداثة ، وهي من جهة أخرى مجرد تعميق وتجذير لها. وهذا هو ما أشار إليه هابرماز بالقول : <<بأن ما بعد الحداثة لا يعني نهاية الحداثة لكنها تعني علاقة أخرى بالحداثة>> ([10]).
والحال أن هناك رافدين تعود إليهما مختلف تيارات ما بعد الحداثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية هما العقلانية النقدية أو بالأحرى اللاعقلانية النتشوية ونقد النزعة الإنسانية عند مارتن هايدغر رغم الصلة الوثيقة بينهما.
يقول جياني فاتيمو :
<< لا يمكن للتنظيرات المشتتة والتي لا تزال غير متناسقة كثيرا حول ما بعد الحداثة أن تنال عمقها وشرفها الفلسفيين إلا بإضافتها إلى إشكالية العود الأبدي النتشوية وإشكالية "تجاوز" الميتافيزيقا عند هايدغر.
وبالمقابل لا يمكننا أن ندرك بشكل نهائي عدم قابلية الحدوس الفلسفية لنتشه وهايدغر للاختزال في مجرد الثقافة النقدية kulturkritik التي اجتاحت فيما بعد  مجمل الفلسفة والثقافة في بدايات هذا القرن إلا في ضوء علاقتها بكل ما كشفت عنه تأملات ما بعد الحداثة حول ظروف الحياة الجديدة في نهاية العصر الصناعي >> ([11]). ويضيف فاتيمو قائلا : <<وأن نعتبر -كما سنفعل هنا- أن النقد الهيدغيري للنزعة الإنسانية أو الإعلان النتشوي للعدمية الكاملة باعتبارهما لحظتين "إيجابيتين" في إعادة بناء فلسفي وليس بصفتهما مجرد عرضين للانحطاط والإعلان عنه ، لا يصبح أمرا ممكنا إلا إذا لم تكن لدينا الشجاعة - وليس السفه نأمل ذلك- أن ننصت بعناية مستمرة إلى الخطابات المتعلقة بما بعد الحداثة وسماتها المميزة (في مجال الفنون والنقد الأدبي وعلم الاجتماع) >> ([12]).
والواقع أن تيار ما بعد الحداثة ليس تيارا متجانسا على الرغم من اشتراكه من الناحية الأيديولوجية في بعض الرؤى والمواقف المشتركة. ولعل أهم ما يميز ذلك التيار بصفة عامة هو ازدراؤه العميق للعقلانية التقنية العلمية والعقل الأدواتي ، وهو في مجمله ضد المقاصد العقلانية الهادفة إلى إضفاء معنى ما على التقدم وإعطاء تأويل متجانس لمعنى التاريخ.
لهذا لم يقتصر نقد الحداثة على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والفلسفية بل تجاوز ذلك إلى مختلف أشكال التعبير الثقافي الأخرى.
وفي الواقع فإنه من الصعب الفصل في إطار الحداثة بين تطور المنظومات المعرفية الذي أدى في نهاية الأمر إلى ميلاد "النموذج الصناعي للتنمية" وبين نمط التنظيم السياسي الذي أدى في النهاية إلى ميلاد "المجتمع ما بعد الصناعي".
من الناحية الاجتماعية الاقتصادية كان ماكس فيبر سباقا إلى الإشارة إلى خطوط التصدع التي أصابت "النموذج الصناعي في التنمية" متمثلا في النظام الرأسمالي العالمي معبرا بذلك عن خيبة أمله من مشروع الحداثة ذلك أن تصوره لجوانب التقدم في العقلانية الحديثة قد اقترن عنده بالإحساس بخيبة الأمل فيما يتعلق بمستقبل المجتمعات الغربية .
وتعود هذه الازدواجية التي طبعت موقف ماكس فيبر : ازدواجية التفاؤل فيما يتعلق بتطور العقلانية والتشاؤم فيما يتعلق بمصير المجتمعات الغربية إلى الحيرة التي وقع فيها فيما يتعلق بمستقبل النظام الرأسمالي العالمي.
وتكمن أطروحة فيبر الأساسية في هذا الصدد في القول بأن القوى الروحية (الدينية) كانت بالأساس هي المحرك الرئيس وشريان الحياة لهذا النظام وبزوال هذه القوى وهيمنة القوى المادية الميكانيكية أصبح هذا النظام في طريقه إلى التفكك والانحلال. فهناك بحسب اعتقاد فيبر صلة وثيقة بين "الأخلاق البروتستانتية" وما تفرضه من تقشف وتفان وإخلاص في العمل وبين التقدم المتواصل الذي شهدناه في الرأسمالية منذ البدايات الأولى لما أصبح يسمى بـ "عصر الحداثة" ويمكن تفسير المعجزة اليابانية من المنظور نفسه لكن من زاوية مختلفة.
إن استبدال القوى الدينية بالقوى المادية أو بـ "القاعدة الميكانيكية" على حد تعبير فيبر قد أكسب النظام الرأسمالي قوة ودفعا جديدا ومنحه "قفصا فولاذيا" (cage d'acier) ([13]) يضمن له الاستمرار والبقاء ولو لبعض الوقت . لكن من يدري لعل مولودا جديدا يزيح ذلك النظام ويحل محله في قفصه الفولاذي << فلا أحد يعرف من سيقيم في القفص مستقبلا ولا ما إذا كان سيظهر في نهاية هذه السيرورة العظيمة أنبياء جدد بكل معنى الكلمة أو نهضة فعالة على صعيد الأفكار والمثل العليا القديمة >> ([14]).
ومهما يكن من أمر فإن لدى الفيلسوف من الأسباب ما يكفي للقلق على مصير النظام الرأسمالي العالمي رغم تشبعه وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بالروح الأنوارية التي بالإضافة إلى تعلقها بالقاعدة الميكانيكية للرأسمالية ، تمجد انتقال مصدر الإلزام في العمل والكسب الاقتصادي من الإكراه الداخلي الذي تفرضه البروتستانتية إلى الإكراه الخارجي الناتج عن ضغط "فكرة العمل".
من الناحية السياسية والاجتماعية يتمثل نقد الحداثة في اتجاهين كبيرين عرفا تطورا سريعا في أوروبا وأمريكا هما الاتجاه الهيغلي الماركسي والنزعة الفردية اللبرالية . ويتمثل القاسم المشترك بين هذين الاتجاهين النابعين من فكر الحداثة في أمرين مهمين :
الأول : الإيمان الأعمى بالتقدم أو النمو العقلاني مهما كان نوعه اقتصاديا أوسياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو إطيقيا .
الثاني : الثقة المطلقة بقدرات الإنسان سواء أكان فردا أو جماعة على تحديد مصيره بنفسه. فالإنسان بحسب هذا الاتجاه هو ما يصنع من نفسه.

من منظور فلسفي وجودي تشير مقولة ما بعد الحداثة إلى تجاوز الحداثة التي تجسدت عمليا في السيطرة على الطبيعة من خلال التقنية . وقد تشكل هذا المفهوم باعتباره ردة فعل على الثورة الصناعية، وهيمنة التقنية على الإنسان وحلولها محله فأصبح يعاني من اغتراب مضاعف سببه الانغماس في عالم الأشياء من جهة، والذوبان في الكثرة الاجتماعية من جهة أخرى فأصبحت حياته موزعة كما يقول هايدغر بين << رنين الجرس، وطنين المطبخ والجار الثرثار.. >> .
من الناحية الثقافية والانتروبولوجية سعى فلاسفة الاختلاف، والفلاسفة النقديون، والخصوصانيون، والنقاد اليساريون إلى تأسيس فلسفة "مثالية" فردية واجتماعية، تعارض في ذات الوقت النزعة الأدواتية وشرذمة المجتمع الرأسمالي، وثقافة التهميش والإقصاء.
ذلك هو ما حدا بأدوارد سعيد إلى إطلاق صرخته الأخيرة << إن الثقافة قد استعملت أساسا لا بصفتها مصطلحا يفيد التعاون والحياة الجماعية، بل باعتبارها مصطلحا دالا على الاستبعاد>> ولا يزال ثمة وقت كاف يضيف أدوارد سعيد لتقبل << الحدث الأكبر في الحداثة وما بعد الحداثة والذي يقضي بأن نضع أنفسنا خارج نطاق الثقافات>> ([15]).
وإذا كانت دعوة أدوارد سعيد وغيره من النقاد اليساريين نابعة من إحساسه الحاد بنزعة استبعادية للآخر، ومعبرة عن رؤى وطانية دفينة يغذيها حلم فلسطيني لم يتحقق، لكنه ظل يراوده حتى آخر رمق في حياته، فإن دعوة عالم الأنثروبولوجيا جيمس كليفورد إلى "براديغم للإنقاذ" ([16]) (Paradigme de sauvetage ) نابعة بالأساس من وعيه بأن الثقافة تواجه دائما خطر الانقراض، أو هي في طريقها إليه ويتعلق الأمر بـ "الثقافات الفرعية" ثقافة الآخر، وضحايا التهميش والإقصاء. هذا الأمر هو ما دعا البعض إلى اعتبار الجنون واللاعقل، والمثلية الجنسية، أنماطا مألوفة من التعبير المشروع عن الذات الطامح إلى كسر الطوق الرهيب "للرقابة والعقاب". ذلك هو المشروع الذي ظل يعانقه مشيل فوكو ردحا من الزمن وكرس له جزءا لا يستهان به من مكتوبه الفلسفي. وتلك أيضا هي بداية العقلانية النقدية ،التي أرست دعائمها مدرسة فرانكفورت، والتي رأت في السستمة عرضا مزمنا من أعراض العقل المهيمن: العقل التماثلي القائم على مغالطة الهوية.
لقد أصبح لزاما على الخطاب الفلسفي المعاصر أن يكشف عن التناقض الموجود في صميم اللوغوس << التناقض الأكثر مأساوية بين نزعة العقل الظاهرة إلى التحرر والبربرية التي نتجت عمليا>>([17]).
ولم يأت الاحتجاج على ذلك التصور الشمولي للثقافة من فلاسفة الاختلاف فوكو ودولوز ودريدا.. ومدرسة فرانكفورت هوركهايمر وهابرماس وآدورنو.. فحسب بل جاء كذلك من فلاسفة التاريخ الجدد وبخاصة من مدرسة الحوليات الفرنسية وعلى رأسها فرنان بروديل، الذين طالبوا بالاستغناء عن " ال-تاريخ" بـ "التواريخ الموازية"، عن التاريخ السياسي والعسكري ، تاريخ تقلبات القوى وسيطرتها الذي هو مجال الذاتية بامتياز، بالتاريخ الطبيعي الذي يفسح المجال للوثيقة للبوح بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون. وهو ما يمكّن بالفعل من قراءة التاريخ بشكل موضوعي ويسمح للجوانب المعتمة والغائرة من تاريخ الجماعات والأجناس بالظهور على السطح وأن تأخذ حظها من العناية والاهتمام .
4-العولمة:
كل ما يمكن قوله عن العولمة في هذه المرحلة هو أنا نشاط معين أساسه التنوع ومجاله هو كوكبنا بأسره. وسواء نظرنا إلى هذا المفهوم من حيث المعنى أي من حيث حقوله الدلالية المختلفة، أو من حيث مجال عمله الذي لا يستثنى ذرة تراب واحدة من الكون بأقطابه الأربعة، فإننا سنخلص إلى النتيجة نفسها :الإرادة الشمولية التي هي - بغض النظر عن طبيعتها- إرادة واعية تماما بحدود ممارستها.
ولعل أول ما تتميز به العولمة،باعتبارها ظاهرة كونية،هو أنها تمتاز بالراهنية الدائمة،وتتمنع على الطرح الأحادي بحيث لا يمكن مقاربتها بالتركيز على الجانب الاقتصادية أو الفلسفية وحدها بل تتدخل في ذلك اعتبارات جغرافية وسياسية وبيئية.
إلا أن السمات الأكثر التصاقا بهذه الظاهرة الكونية هي على وجه الخصوص:
1- سرعة انتقال المعلومات وكثافتها، بحيث أصبح العالم قرية واحة على حد تعبير عالم الاجتماع الكندي مارشال ماك لوهان.
2-تعميم أنماط الاستهلاك الثقافي الاقتصادي والإعلامي والقيمي الصادرة عن المتروبولية الدولية والتي تهدف في المقام الأول إلى إعادة موضعة الجماعات المختلفة ضن الفلك الجديد أي ضمن حدود تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا.
3- تفتيت وحدة الدولة القومية ودك "حصونها" ثقافيا بالقضاء على الثقافة الأصلية أو المهيمنة لإفساح المجال للثقافات الفرعية ؛ وإعلاميا من خلال فضح بعض الممارسات وتعريتها.
ويمكن مقاربة مفهوم العولمة من خلال ما يمكننا تسميته بـ "العقلانيات الثلاث" التي عرضها أستاذنا فتحي التريكي على النحو الآتي:
1- "عقلانية حسابية" : مجالها المبادلات الاقتصادية على مستوى الكوكب.
2- "عقلانية أدواتية": مجالها التقنيات والاتصال.
3- "عقلانية عنفوانية ": مجالها السياسة والعلاقات الدولية ([18]).
وبناءا على ذلك تأخذ العولمة أشكالا متعددة نوجزها فيما يلي:
1- عولمة ثقافية: تستهدف تعميم أنماط التعبير الثقافي الصادرة عن المتروبولية الدولية في مجلات الإعلام والفن والفلسفة والعلم..ويعد هذا الشكل أكثر أشكال العولمة خطورة على الأطراف نظرا لإيقاعها المنخفض وتضاؤل المنتوج الرمزي الصادر عنها وهو ما سنركز عليه بشكل أكبر في هذا الكتاب.
أما الإعلام فقد أصبح في ديمقراطية ما بعد الكليانية، الذراع الأيديولوجي للعولمة،يؤسس للتقليد الذي ينطوي على استهواء الجمهور للمماثلة مع النموذج. تلك هي نظرية سلطوية الإعلام في العصر التقني المتقدم عند ماكلوهان.
2- عولمة اقتصادية : تكمن في اتباع الأساليب اللبرالية في الإنتاج أو ما يسمى باقتصاد السوق. وإذا كان هذا النوع هو أكثر أنواع العولمة إيجابية إذا ما أحسن التعامل معه إلا أن "الكلفة الاجتماعية" المترتبة عليه تقلل بالفعل من فاعلية هذا النظام.
فقد أدى التوزيع غير العادل للثروة على الصعيد العالمي إلى تكوين بؤر للفقر في أماكن معدودة من المعمورة أصبحت شيئا فشيئا تغذي ردود الفعل الهووية في أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا الساعية إلى البحث عن بديل آخر للعولمة الاقتصادية << فقد أعادت اللبرالية الاقتصادية المعممة تشكيل المخيلة الاجتماعية والمثل المشتركة ، والتمثلات الثقافية ،كما أنها زادت علاوة على ذلك من تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والثقافية الحالية دون أن تتمكن من رسم مرجعيات أيديولوجية وقيم اجتماعية جديدة >>([19]). تلك هي إحدى مفارقات العولمة التي قضت بالفعل على البنيات الاجتماعية التقليدية وأنظمة الرعاية والضمان الاجتماعي – على ما تنطوى عليه من موروث سلبي- واستبدلتها بسلطة السوق القائمة على عقلية الربح والنـزعة الفردية التملكية l'individualisme possessif التي لا تبقى ولا تذر.
صحيح أن تعميم نموذج اللبرالية الاقتصادية وتحرير المبادلات على مستوى الكوكب قد ساهم في زيادة فرص العمل وتحسين الظروف الاقتصادية لبعض الدول وخاصة في جنوب شرق آسيا من خلال ما يعرف في أدبيات التنمية بـ "تصدير التجربة" وتوطين الخبرة التراكمية للشمال في مجال الصناعات والتكنولوجيا والمنظومة الحقوقية المتعلقة بالعمل والإنتاج ،إلا أن العولمة اللبرالية قد انعكست في المقابل في اتساع غير مسبوق للهوة بين الشمال والجنوب من خلال علاقات إنتاج رأسمالية غير متكافأة داخليا وخارجيا.
3- عولمة سياسية : متمثلة في تثبيت دعائم الديمقراطية اللبرالية على النحو الذي كشف عنه الفيلسوف فرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ". وتتمثل العولمة السياسية من الناحية الشكلية في حرية الأحزاب، وتنظيم انتخابات دورية والسماح للتنظيمات الموازية للدولة مثل مؤسسات المجتمع المدني بالبروز وأداء عملها في ظروف ملائمة..
4- عولمة قووية: (نسبة إلى القوة) يتحدد فيها الحق بمعيار القوة والتلويح بها واستخدامها في أحيان عديدة ضد كل من تسول له نفسه الشذوذ على القاعدة . هذه العولمة القووية ، العنفوانية هي تعبير عن هوس النظام الذي يضرب سائر الأمكنة بالتوازي، ويقضي على كل منطقة عاصية ، ويسعى إلى تدجين كل الفضاءت "المتوحشة" جغرافيا وذهنيا.
وبالفعل أدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى قيام قطبية أحادية تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية مسكونة بهوس السيطرة ، وتحول العالم من جراء ذلك من "قوة التهديد" التي طبعت الحرب الباردة إلى "التهديد بالقوة" ([20]) واستعمالها الذي بات أكثر التصاقا بديمقراطية ما بعد الكليانية (démocratie post-totalitaire).
إن الحروب المعلنة على الإرهاب ، بما في ذلك حروب العراق وأفغانستان، إنما تهدف في المقام الأول ،بغض النظر عن الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية إلى القضاء على كل منطقة عاصية ،وإلى توطين كل الفضاءات الخارجة على النظام. من هنا ينبع ما يسميه جان بودريار بـ "عنف العولمة" الذي يطارد كل شكل من أشكال السلب والفردنة ويستوعبه ([21]) ،إنه عنف يؤسس للكاووس لأنه <<يعمل جاهدا على خلق عالم متحرر من كل نظام طبيعي سواء أكان ذلك النظام نظام الجسد أو الجنس أو الموت أو الحياة ،إنه أكثر من عنف، إنه هوس محموم >>([22]) ينتقل بالعدوى بشكل مرعب، ويأتي شيئا فشيا على كل أصناف المناعة لدى الثقافات وعلى قدرتها على المقاومة.
إن الأمر لا يتعلق يقول جان بودريار <<بصدام للحضارات بل بتطاحن عميق يكاد يكون انثروبولوجيا بين ثقافة كونية لا تعترف بالفوارق ،وبين كل ما يحتفظ في مجال معين أيا كان بذرة من الغيرية التي لا تقبل الاختزال >>([23]).
هذا البعد القووي العنفواني للعولمة يضعها على نحو ما في خانة واحدة مع الأرثودوكسية الدينية إذ كلاهما <<يعتبر سائر أنماط الاختلاف والتفرد نوعا من التجديف يجعل تلك الأنماط مرغمة إما على الدخول طوعا أوكرها في النظام وإما على الانحلال >>([24]) فهل يمكن اعتبار ذلك تحقيقا لأحلام الطوباويين مثل توماس مور وكامبانيلا في قيام عولمة دينية تتمثل في الكتلكة أو "فكرة العالم المسيحي الموحد" من خلال <<إنشاء امبراطورية عالمية إسبانية- بابوية >>([25]).
العالم يعود إلى المرحلة الأولى،حكم العمالقة و العصر البطولي كما يقول فيكو،إلى بربرية جديدة ،لا كالبربريات القديمة، بربريات المستوحَش المستهجَن بل "بربرية سمحة" يرعاها سدنة اللوغوس !
5- عولمة بيئية : عندما تلغي المصانع الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية ،وهي التي تتموضع من منظور التنمية والتخلف في أقصى الشمال، بأبخرتها في الجو ، يكون رد فعلها المدوي والعاصف واضحا في بنغلادش في شكل ظاهرة متكررة من الفيضانات التي تهدد كيان هذا البلد وغيره من الدول الكائنة في أقصى الجنوب.ألا يكفى هذا للحديث عن شكل آخر من أشكال العولمة هو العولمة البيئية ؟
وقد كان من الطبيعي أن يؤدي التأحيد أو قوة المشاكلة الميتافيزيقية للكـوكب أو    << تلك العقلانية الحسابية الأدواتية، العنفوانية إلى قيام ردود فعل من النوع الهووي ، وإلى مقومات وطنية تتمثل في تنامي النـزعات القومية (...) وانبعاث الخصوصيات والنـزعات الإقليمية والجهوية ، واشتداد وطأة التعصب والتطرف، وصحوة الخطابات الدينية- السياسية ، وتضاعف الاعتداءات العنصرية ، والكراهية العصبية، وظهور سياسات داخلية وخارجية قائمة على القوة >>([26]).
هذا النقد المزدوج للعولمة بما هي أمركة، أي بما هي "عقلانية حسابية- أدواتية، وعنفوانية " قووية من جهة، وبما هي تحريف للحداثة ونزعة ارتكاسية قائمة على "رد الفعل من النوع الهووي" هو دفع فتحى التريكي إلى البحث عن استراتيجية جديدة للهوية في إطار الجدلية المزعومة بين الهوية والعالمية، استراتيجية تستلهم العبر من التاريخ دون إعادة إنتاجه. وبالفعل فقد <<استطاع الإسلام ،في الفتوحات التي قام بها، إعادة تنظيم المجتمع الإسلامي مع المحافظة على ما هو جوهري في مضمونه الحضاري ،لكنه لم يمح آثار الثقافات الأخرى وأنماط العيش المغايرة له>>([27]). وهنا يمكننا أن نتحدث عن شكل آخر إيجابي من العولمة الإسلامية نستطيع أن نسميه بـ "العولمة الوسطى"([28]).
وتقودنا هذه الفكرة إلى الحديث عن عولمتين إسلاميتين:
1- الأولى حدثت حول منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى في العصور الوسطى وكانت قائمة على نوع من التجانس والتكافؤ،والتبادل الإيجابي،وإقرار الاختلاف،و الانفتاح على الآخر وتجربته الحضارية. وهي على الرغم مما شابها من بعض ردود الفعل الهووية المتمثلة على سبيل المثال في الحركة الشعوبية ،إلا أنها كانت إجمالا عولمة متكافئة بما تضمنته من قيم التسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر فكانت الحاضرة الإسلامية بالفعل عالما مصغرا يجمع بين حضارات الشرق الأقصى وبلاد الفرس،والحضارة الهلنستية وتراث العرب و البربر في شبه الجزيرة وشمال إفريقيا،ونجم عن ذلك تبادل للإنتاج المادي والرمزي في كل الاتجاهات.
2- أما العولمة الأخرى : فهي التي تحدث عنها سيرج لا توش ،وهي علاوة على التناقض الذي تحمله في طياتها والذي يتمثل في "التحديث بدون حداثة" كما يقول، استبعادية لا تعرف التسامح. << لقد أدت ردود الفعل الهووية والارتكاسية هذه إلى نشأة خطاب أيديولوجي جديد يرتكز تارة على أيديولوجيا دينية تعبوية ، وتارة على الشعور بالانتماء العرقي، وتعتمد تارة أخرى على نزعة قومية كليانية ، ويتغذى هذا الخطاب من اليوتوبيا الشعبوية المقرونة بشيطنة الآخر وتبرير استبعاده >>([29]).
ومن هنا ضرورة أن نعرف في عالما العربي الإسلامي تجربة شبيهة بتجربة "مسح الطاولة" عند ديكارت لأن الخطابات العربية المعاصرة أصبحت تدور كلها في دوامة الوعي الارتكاسي   وتمجد "حضور العدم" طالما أنها عاجزة عن الانطلاق من الوجود "الآن وهنا". هذا ما جعل فتحي التريكي يتساءل : << أليس من الضروري أن نحدد موقعنا في تيار العولمة الذي يميز عصرنا لكي نتفادى في الوقت ذاته الوجود الأحادي وتأحيد الوجود ؟ >>([30]).
إن حل هذه المعضلة يتمثل في إعادة التفكير في الهوية في إطار المعطي الجديد الذي هو العولمة فلا يكون مطلب الهوية والخصوصية الثقافية عندنا سببا للانكفاء على الذات، ولا تؤدي بنا المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب إلى التلاشي والذوبان وهذا يتطلب "إعادة صياغة هويتنا"([31]) لتتأقلم مع معقولية العلم والتكنولوجيا، ولتخضع لمتطلبات الثقافة النقدية: باختصار أن نصبح جزءا من العالم.
وطالما أن العولمة ليست خيرا محضا ولا شرا محضا فإننا مطالبون بالتعاطي الإيجابي معها وذلك ببلورة استراتيجية ذاتية تأخذ في الحسبان الخصوصية الثقافية المرنة والديناميكية مع الوعي في الوقت ذاته بمخاطر العزلة والانحسار ضمن الحدود الضيقة للدولة القطرية.
***
العولمة مع ذلك ليست قدرا نهائيا، والرهانات لم تكتمل بعد ، ولم يعرف بعد من الذي سيقيم في "القفص الفولاذي". ويمكن أن يشهد العالم، في مقابل قوة المشاكلة والتفكيك هذه ، قيام قوى متعددة، معارضة ومتعارضة في آن. لكن الشيء المؤكد هو أن وراء المقاومات السياسية  التي باتت تشتد شيئا فشيئا ضد العولمة، يقبع موقف هو أكثر من مجرد رفض ساذج: إن الأمر يتعلق بنـزعة إرجاعية مدمرة، وبمراجعة شاملة لكل مكاسب الحداثة والتقدم، وبرفض لا يتعلق بالانبناء التقني للعالم فحسب ،بل وأكثر من ذلك بالبنية الذهنية لمعادلة سائر الثقافات..إذن تبدو العولمة <<مقبلة أيضا على الغرق في مقاومات متضافرة على مستوى العالم>>([32]).
5 - التغريب:
ما الغرب ؟ ما صلته بالعولمة ؟ وما علاقة العولمة بالأمركة ؟
ظهر كتاب "تغريب العالم" في فرنسا في عام 1989م. وقد كثر الحديث في تلك الفترة عن "انهيار الإمبراطورية الأمريكية". لكن الذي حدث بالفعل ليس سقوط الإمبراطورية الأمريكية وإنما هو أمر لم يكن في الحسبان إنه سقوط الإمبراطورية السوفيتية . ثم تلا ذلك بعد مضي خمسة عشر عاما سقوط جدار برلين الذي كان في نظر الكثير من الغربيين نهاية للأكاذيب والأوهام الكليانية . وبدأ العالم الغربي إثر ذلك يحلم بسلام أبدي سيؤدي عند أقل المنظرين تفاؤلا إلى تعميم "الديمقراطيات الثلاث" ([33]) على حد تعبير توماس فريدمان. لكن الكابوس حل محل الحلم بسلام أبدي . الإنسانية تغرق في شكل جديد من البربرية في عصر بطولي جديد يحكمه الأقوى ، في شكل جديد من البربرية هو "البربرية السمحة" على حد تعبير جان بودريار.
إن العولمة الحالية هي بالفعل "آخر" مرحلة وصلت إليها الامبريالية الاقتصادية . ولنتذكر في هذا الصدد مقولة كسنجر : << إن العولمة ليست سوى الاسم الجديد لسياسة الهيمنة الأمريكية>> ([34]) إذن ما اسمها القديم ؟ لا شيء غير "التنمية الاقتصادية" التي أطلقها هاري ترومان في عام 1949م لكي تمكّن الولايات المتحدة من وضع يدها على أسواق الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة في أوروبا ومن تفادي سقوط الدول حديثة الاستقلال في فلك الاتحاد السوفييتي .
بيد أن أقدم تسمية لتغريب العالم  هي الاستعمار والإمبريالية التقليدية. وإذا كانت التنمية والإصلاح الهيكلي ليسا في الواقع سوى استمرار للاستعمار بوسائل أخرى، فإن العولمة الجديدة من جهتها ليست سوى استمرار لمشروع التنمية بوسائل أخرى .<< إن العولمة والأمركة - يقول سيرج لاتوش- هما ظاهرتان ترتبطان ارتباطا وثيقا بمسار أقدم منهما وأكثر تعقيدا هو مسار التغريب>>([35]) .
صحيح أن << الغرب حيز لا يمكن العثور عليه>>تلك هي الخلاصة التي توصل إليها سيرج لاتوش وعرف مؤلف "ورثة اللوغوس" كيف يوظفها ضمن حوار صامت مع الآخر. إلا إن القول بأن الغرب صورة خيالية هو إفراط في مسار التجريد يلهي صاحبه عن البحث في الشروط الموضوعية لتأسيس خطاب جديد حول الذات ليعيدها إلى دائرة الفعل من جديد، ويخرجها بالتالي من دوامة الوعي الارتكاسي..
إن الاعتقاد بتعايش العقلانية والتخيل في مفهوم الغرب هو الذي أدى بصاحب "ورثة اللوغوس" إلى الخلوص إلى نتيجة كارثية في تفكيره للعلاقة بين الذات والآخر،تزعم أن << الغرب صورة يتمثلها العالم ،صورة ذات وجود افتراضي،وحية بقدر ما يريد  لها العالم أن توجد، بكل إرادة وتخييل ممكنين >>([36]). والواقع أن الغرب شكل مادي وتاريخ واقعي مسيطر،على الرغم من أن اللوغوس لم يكن قادرا على التقوّم دون العنف واللانظام، وهو ما جعله يغادر الأرض التي ولد فيها : الحوار ومقارعة الحجة بالحجة،ويلجأ إلى نقيضه:الكاووس.
إن "تفعيل المخيلة" هو هروب من الواقع وقفز فوق التناقضات التاريخية، وانتكاس إلى الوعي الارتكاسي.كما أن محاولة  فصل الغرب عن مكوناته،فصل "الصورة" عن الأشكال المادية،هو كالفصل بين الوجود والماهية،بين المفهوم والماصدق،بين الجوهر وأعراضه المادية المحسوسة،بين الكلي والجزئيات التي تشكله،لأن المفهوم متى جردناه  عن حوامله المادية لم يعد شيئا، والعدم لا ينتج معلولا بذاته،ولا يصبح علة في ذاته، و لا يصح أن ننسب إليه الفعل بحال.
هنا لا يصبح "لدراما المفارقة" التي تحدث عنها مؤلف "ورثة اللوغوس" من معنى : "موضعة" الذات و"تذويت" الموضوع، الذات التي وجدت نفسها فجأة وقد تحولت إلى موضوع للدراسة والتجريب نظرا لسلبيتها الكاملة، والموضوع الذي تحرر من إساره وسلبيته وحولهما إلى مصدر للدفق الحيوي اللامحدود وأصبح ذاتا تتسلط،كل ما عداها موضوعات جعلت إما للاستعمال وإما للمعاينة والتجريب.
بيد أننا عندما نقول إن الغرب شكل مادي،وتاريخ واقعي مسيطر،أكثر منه صورة خيالية نشأت من تضاعيف أسطورية، فإن ذلك لا يعنى إنكار دور الأسطورة في بداية تشكل ذلك المفهوم، وفي تعزيز آليات الهيمنة في الوقت الراهن . فقوة الميتوس في ثرائها وتنوعها هي التي سمحت بتوالد اللوغوس عبر تاريخه، وكانت بمثابة المربية التي تعلمه المشي عندما كان لا يزال يخطو خطواته الأولى. ألم تنشأ الدولة عند أفلاطون، وهي الحقيقة التي تجسد اللوغوس أحسن تجسيد في فضاء عريض من المداولة والتشاور،من افتراض لحظة وعي كارثي أتى فيها الطوفان على كل مقومات الحياة ؟ أليست عودة السجين ثانية إلى الكهف (في أسطورة الكهف الأفلاطونية) هي عودة الفيلسوف إلى الكثرة الاجتماعية لإصلاحها وتدبيرها ؟!
الغرب إذن ليس تلك الآلة الهائلة (Mégamachine) التي دواليبها من البشر كما يقول سيرج لا توش ولا هو تلك الصورة المأسطرة ، ذات الوجود الافتراضي كما يقول صاحب "ورثة اللوغوس".
وتظهر التجربة التاريخية والفريدة من نوعها للعالم الحديث عددا من القوى،يتميز بنوع من الاستقرار النسبي،وأبعادا ثابتة ضمن صور متجددة باستمرار. ومن الطبيعي أن نضيف تلك العناصر الثابتة التي ظهرت على هذا النحو إلى ذات تسمى "الغرب". والحقيقة أن ما يشار إليه بهذا الاسم ،في الاستعمال المشترك،يتضمن بالفعل تجربة متعددة الأشكال،ورافدا تاريخيا وهو ما أطلق عليه هايدغر اسم "القدر المسبق".
إلا أن الإيمان الميتافيزيقي بفكرة الاتصال المطلق،وبالحتمية الصارمة بين الغرب وأصوله الهلنستية ،اليهودية والمسيحية ،لا يتأتى بالفعل إلا بافتراض مرجعية أوقليدية أو مطلقات نيوتونية تقول بالزمان المطلق والمكان المطلق والحركة المطلقة . هذا هو ما دعا سيرج لا توش إلى القول << إن الغرب لا قوام له إلا ضمن تاريخ أصيل،ليس حتميا بشكل مطلق،وليس استرداديا إرجاعيا،ولا تطوريا بشكل كامل. فالماضي ينير الحاضر ويفسره،إلا أنه يناقضه في بعض الأحيان،وينذر بمصائر أخرى لم تحدث بعد>>([37]) . "القدر المسبق" إذن ليس قدرا مسبقا إلا حين الإقرار بالعجز. إن الغرب عبارة عن جملة من النقاط "المادية" المعزولة وحدت بينها إرادة كلية  واعية تماما بحدود ممارستها.
إلا أن ثمة مسلكا آخر لتحديد مفهوم الغرب، يحاول أن يعطي تحديدا دقيقا لذلك المفهوم لكنه لا يخلو من المخاطرة ومزلة القدم ومع ذلك فهو ضروري. ويعلمنا الحس المشترك أن الغرب له صلة بالعديد من العناصر المختلفة : بكيان جغرافي معين هو أوروبا، وبديانة معينة هي المسيحية، وبفلسفة خاصة هي فلسفة الأنوار، وبجنس ("عال"،"جنس الأجناس") هو الجنس الأبيض، وبنظام اقتصادي معروف هو النظام الرأسمالي. ومع ذلك فالغرب لا يتماهي مع أي من تلك العناصر على حدة، لأن الكلي ليس أي فرد من أفراده بل هو هي في كليتها. ألا يتعلق الأمر إذن بدلالة أوسع هي الثقافة أو الحضارة ؟ ومع افتراض تجاوز الصعوبات المضنية المتعلقة بتعريف ذينك المفهومين،يبقى علينا أن نحدد خصوصية الغرب من خلال تلك الحضارة أو الثقافة . ويذهب سيرج لاتوش إلى أن السمات العامة المتواترة التي نستشفها من الفحص التاريخي والمعاينة التحليلية ترسم لنا صورة لا مثيل لها في عالم الأنواع ،صورة قد تصيبنا بالذعر إنها صورة "وحش" إذا ما قيس بالمقولات التي نميز الأنواع من خلالها. يقول سيرج لاتوش << يبدو لنا الغرب كآلة حية نصف آلية ونصف عضوية دواليبها من البشر، ومع ذلك فهي مستقلة ذاتيا عنهم، إنها تستمد حياتها وقوتها منهم، تتحرك في الزمان والمكان على هواها، إنه باختصار آلة هائلة >>([38]).
ويخلص سيرج لا توش إلى أن المظهرين الأكثر التصاقا بالغرب هما: أيديولوجيته وآلته التقنية الاقتصادية . فالغرب في الوقت الراهن يتحدد بالأيديولوجيا أكثر مما يتحدد بالجغرافيا. ذلك أن العالم الغربي، في الجغرافيا المعاصرة،هو عبارة عن مثلث يضم النصف الشمالي من الكرة الأرضية بالإضافة إلى اليابان  والولايات المتحدة. ويرمز الثالوث المكون من أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية لذلك الفضاء الدفاعي- الهجومي، وقد حلت الدول الثماني الأغنى والأكثر تصنيعا في العالم G8) ) مؤقتا محل ذلك المجموع .<< إن الغرب الذي لا يمكن اختزاله  في حيز جغرافي ليس فقط وحدة دينية، إتنية بل وحتى اقتصادية. إنه عبارة عن وحدة مركبة تجمع تلك المظاهر كلها، إنه عبارة عن كيان "ثقافي" وظاهرة حضارية>> ([39]).
والحال أن الإحاطة بمفهوم جامع مانع للغرب هو أمر يتعذر تحقيقه، ومع ذلك يجب مقاربة مفهوم الغرب باعتباره وحدة أساسية نابعة من سلسلة ديناميكية من الظواهر نشأت عبر التاريخ. إن ذلك المفهوم هو كالرمال المتحركة لا يمكن فهمه إلا في صيرورته وحركته. وعلى الرغم من أنه لا يمكن عزله عن دلالته الجغرافية الأصلية إلا أن << اتساعه وتشعبه يؤديان إلى اختزاله في مجرد صورة خيالية . الغرب جغرافيا وأيديولوجيا هو عبارة عن شكل متعدد الأضلاع يتشكل من ثلاثة أضلاع رئيسية : فهو يهودي – هلنستي- مسيحي، وأطراف محيطه الجغرافي تتحدد على وجه التقريب بحسب الأزمنة، وأصبحت حدوده تتعين أكثر فأكثر بالأيديولوجيا. لقد تماهى بشكل كامل تقريبا مع "البراديغم" الذي انتُزع من سياقه الجغرافي الذي ولّده>>([40]).
والأهم فيما يراه لاتوش، في تلك "الصورة الخيالية المشتركة" هو الإيمان الذي لا يصدق على صعيد الكوسموس وعلى مستوى الثقافات بزمن جمعي، خطي وفي نسبة مهمة السيطرة على الطبيعة إلى الإنسان، والإيمان المطلق بقدرة العقل. وقد رأينا كيف انعكست هذه الأعراض المختلفة "للعقل الكوني" في الحداثة والتقدم وما بعد الحداثة .
الغرب أصبح عبارة عن "قبيلة بدائية" لها طوطمها الذي يمثل مخيلتها الجماعية وسر وحدتها وانسجامها، وتضامنها العضوي. تلك المخيلة الجماعية هي التي كشف عنها مشروع الحداثة كما توضحت معالمه مع ديكارت في دعوته لأن نصبح كما يقول "سادة وملاكا للطبيعة" ، إلا أنها تضرب بجذورها في القدم في المخزون الثقافي اليهودي، وفي المخزون الثقافي اليوناني، وفي انصهارهما.
الغرب لا يوجد في المكان فهو ليس حيزا صالحا للقرار فيه والنفاذ إليه إلا بقدر الممكنات الواسعة . فيمكن أن نتحدث عن معجزة صينية كما تحدثنا من قبل عن معجزة يابانية فلا بد لـ "القفص الفولاذي" من ساكن يسكنه ! لكن ما لم يأخذه لاتوش في الحسبان هو أن وراء المعجزتين اليونانية واليابانية موروثا اجتماعيا فريدا من نوعه. فكما مثلت الأخلاق البروتستانتية باعثا مهما من بواعث انتصار الرأسمالية في الغرب التقليدي، مثلت روح الجماعة وحب التضحية عاملا من عوامل النهضة اليابانية.
 ثانيا- المركزية العرقية والغيرية الثقافية:الحوار المفقود :
لقد كان من الطبيعي أن يعرف العالم في مرحلة ما بعد الكليانية (أي بعد سقوط النظام الشيوعي ومعظم الأنظمة الشمولية النابعة منه) استقطابا جديدا بين قوى الهيمنة والقوى الصاعدة ،أي بين الأيديولوجيا النابعة من رحم العولمة القووية أو الحضارة المهيمنة والأيديولوجيا النابعة مما يسميه صامويل هنتكتون بـ الحضارات المتحدية" أو بحسب عبارات ماكس فيبر بين القوى المادية القائمة على "فكرة العمل" من جهة و القوى الروحية و"المثل العليا القديمة" من جهة أخرى . وعلى الرغم مما ينطوي عليه هذا التمييز من تبسيط للأمور إلا أن الصراع أصبح واضحا خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بين دعاة الغيرية الثقافية الجذرية والمدافعين عن "كونية الثقافة" والعقل الكوني .
هذا الاستقطاب الحاد هو الذي دفع  سيرج لاتوش في كتابه "تغريب العالم"  إلى تقسيم العولمة إلى ثلاثة أنواع هي :
1- العولمة الحالية : وهي عولمة أمريكية تتقاطع كما رأينا في الكثير من جوانبها مع العولمة الدينية المتمثلة في فكرة الكتلكة أو العالم المسيحي الموحد عند كابانيلا وتوماس مور.
2- العولمة الإسلامية : وتتمثل حسب اعتقاده في "التدبير التيوقراطي للدولة" وفي "أسلمة الحداثة"، وفي <<مشروع إعادة توحيد للجسم الاجتماعي على أساس وحيد هو الرابطة الدينية المجردة مع محو كل الحدود الجغرافية الأخرى >>([41]).
3- العولمة الاجتماعية الديمقراطية التي يدعو إليها مناهضو العولمة.
والواقع أن مسار "التدمير الخلاق" الذي يغذي بالفعل ديناميكية اقتصاد السوق هو الذي أدى إلى تقهقر الهوية الثقافية على الصعيد الكوني وتفكيك عرى الجماعات ووحدة الثقافة وهدد كيان الدولة الوطنية وولد المزيد من الغل . << ولعل من السذاجة، وسوء النية، يقول سيرج لاتوش، بعد مضي خمسين عاما من التغريب الاقتصادي للعالم،أن نرفض نتائجه المخزية : الإبادة في كل جزء من العالم بدم بارد،والولايات المتحدة تنتشي باسم نقاوة العرق أو الدين>> ويضيف لاتوش قائلا : << ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن هذه العودة إلى المركزية العرقية في الجنوب والشرق،إنما تتناسب في حقيقة الأمر مع العنف الخفي الذي سببه النموذج الكوني الغربي،كما لو كان وراء الحياد الظاهر للسلعة، والصورة الإعلامية، ومهنية القانون تقبع في اعتقاد الكثير من الشعوب، مركزية إتنية غائرة، غربية، مركزية إتنية كونية هي المركزية العرقية للشمال والغرب،مدمرة أكثر من كونها نفيا رسميا وجذريا لكل الفوارق الثقافية>>([42]).
وقد نجم عن هذه المركزية الإتنية تحويل العالم الآخر إلى "ورشة فسيحة للمخلفات" على حد تعبير ريمو غويدييري .
***
إن الانحسار ضمن أنموذج مشحون باشتراطات أيديولوجية، هو الذي أدى إلى المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية : إما النزعة الإتنية أو المركزية العرقية، وإما الإرهاب القائم على الهوية أو النزعة الكونية المتوحشة. إنه انحدار غير مسبوق في مانوية ([43]) خطيرة: إما خضوع الثقافة، ثقافة الآخر، لقانون المعادلة المفترس، وإما التهميش والإقصاء.
هذا المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية هو الذي لمسناه سابقا في التعدد الواضح في خطاب الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة الذي حصر العلاقة مع الآخر ضمن خيارين: قطب المغايرة الجذرية وقطب الانتماء المشترك. وفي تقديرنا فإن الانحسار ضمن هذه القطبية المزدوجة لا يساعد في إعادة تحديد مضمون الحوار المنشود بين الثقافات.
ذلك هو ما أدى ببعض الأنثروبولوجيين المعاصرين إلى المطالبة بحالة ثقافية استثنائية قائمة على المحاصّة عوضا عن الخضوع  لقانون معادلة الثقافات. إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاندماج في النمط الموحد (المشاكلة) ،إذا كان يضمن الاعتراف والحق المشروع في التعبير عن الذات، بل يكمن بالأحرى إما في بلقنة الهويات، وإما في إذعان النمط الموحد لثقافة مهيمنة تحمل سلاح التهميش والإقصاء. وهكذا نخلص مع سيرج لاتوش، إلى القول بأنه لم تكن ثمة في أي وقت كان ثقافة "نقية، معزولة ومنغلقة"، بل إن الثقافات إنما تعيش من التبادل والإسهام المشترك المتواصل. ولهذا السبب فإن الأمركة الكلية محكوم عليها بالزوال.
إلا أن ثمة عارضين مزمنين من عوارض التأحيد والعولمة يجب التصدي لهما لخلق حوار أصيل بين الثقافات يمكّن من ولوج عالم أفضل هما: السلعنة (تحويل الثقافة إلى سلعة) وربط الاقتصاد بالثقافة. والمقصود بالسلعنة ما يتضمنه إخضاع الثقافة لمنطق السلعة التجاري من استلاب الإنسان المتزايد وتفاقم غربته في العالم الجديد ([44]).
إن العولمة بعيدا عن أن تؤدي إلى إثراء المجتمعات المختلفة في جوانب متعددة، فإنها قد فرضت على الآخر رؤية خاصة هي رؤية الغرب، وبشكل أدق رؤية أمريكا الشمالية. وقد أعلن دافيد روتكوب - بعبارات تذكرنا بخطاب الانتروبولوجيا الاستعمارية والنزعة الكونية عند آلبير سارو ورايمون بيت-  : << أن الهدف الأساس للولايات المتحدة من السياسة الخارجية في عصر الإعلام يجب أن يتمثل في كسب معركة سيل المعلومات في العالم، بالسيطرة على كافة الموجات كما سيطرت بريطانيا قديما على البحار>> ويضيف قائلا : << إنه من المصلحة  الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة السهر على أن العالم ،إذا ما تبنى لغة واحدة، أن تكون تلك اللغة هي اللغة الإنجليزية، وإذا ما توجه صوب قوانين مشتركة في ميادين الاتصال والأمن، أن تكون تلك النظم أمريكية، وإذا ما تواصلت مختلف أرجائه عن طريق التلفاز أو الإذاعة أو الموسيقى أن تكون برامجها أمريكية، وإذا ما أنتج قيما مشتركة أن يكون في مقدور الأمريكيين أن يتعرفوا على أنفسهم من خلالها>> ويختم حديثه بالتأكيد على أن ما هو خير للولايات المتحدة هو بالضرورة خير للإنسانية :   << فينبغي ألا ينكر الأمريكيون أن أمتهم هي أعدل الأمم التي عرفها تاريخ العالم وأعظمها تسامحا، وأكثرها رغبة في مساءلة نفسها، وفي تحسين ذاتها على الدوام، وأنها أفضل نموذج للمستقبل>> ([45]) من هنا نجد المماهاة بين العولمة والأمركة  والامبريالية الثقافية.وتعني الأمركة في هذا السياق أرجحية المساهمة الأمريكية في الإنتاج الثقافي المادي والرمزي الذي أنشأته ثورة المعلومات. ولا تعني الأمركة بالضرورة تحويل ثقافة الآخر إلى ثقافة أمريكية أو تعميم القيم الأمريكية على جميع شعوب العالم .<< فالأمركة ليست ثمرة للعولمة ولكنها أحد أركانها>> ([46]).
ومن الملاحظ أن هذه الإمبريالية الثقافية تنزع في أغلب الأحيان إلى استبدال الثراء القديم للمعنى بفراغ مأساوي. وقد كان ماكس فيبر سباقا إلى تشخيص خيبة أمل العالم هذه بقوله << القطار ماض في المسير ، وبعض العلل تؤدي إلى بعض النتائج ،لكننا لم نعد نعرف واجبنا، لماذا نحيا ولماذا نموت ! >> ([47]).
ولم يفلح تيار المثاقفة في محو خطوط التصدع بين الذات والآخر، ولا في ردم الهوة بين ثقافة مسكونة بهوس السيطرة، وبين ثقافات هزيلة عاجزة إيصال صوتها وبلورة استراتيجيات فعالة خاصة بها للحد من المفعول السلبي للعولمة الثقافية .
إن تفجر الدعاوى المطالبة ببعث الهويات هو ،على نحو ما، شكل من أشكال "عودة المكبوت". فقدت اجتثت الآلة الحية الكونية كل ما يعلو سطح الأرض، لكنها طمرت البنيات الكبرى واحتفظت، دون وعي منها،بأساساتها المتمثلة في ذلك الطموح الذي لا يمكن اجتثاثه : التطلع إلى الهوية ومنها إلى التذويت. ويمكن التعرف في ذلك التأحيد  الكوني،على جذور الثقافات التي تعرضت للإذلال وديست بالقدم، والتي تنتظر الفرصة السانحة للظهور من جديد ، ظهورا قد يكون هذه المرة فتاكا ومرعبا. إن تلك الثقافات المكبوتة، المسكونة بدورها بأسطورة الثراء،والتي لم تجد مكانها الضروري في العالم نظرا لإيقاعها المنخفض،ولم تجد الاعتراف بحقها المشروع في الوجود لمغايرتها الجذرية،ستعود لا محالة من جديد وستجد فرصة للانبعاث، فطائر مينارفا لا يبدأ في التحليق إلا عند الغسق.
إن النـزعة الكونية الأنوارية هي أشبه ما تكون بـ "قبيلة بدائية" رحلت وخلفت وراءها العديد من المخلفات نجم عنها العديد من أشكال المقاومة،وسمحت بظهور تشكيلات لا أصل لها ولا فصل، تتسم بالغرابة، والخطورة، والطابع المباغت في آن معا. إن ردود الفعل  الارتكاسية على إخفاق وتائر التنمية واستراتيجياتها،والدعوات الكثيرة إلى بعث الهويات القومية والدينية، ومقاومة التأحيد والمشاكلة الكونية للكوكب ،بدأت تأخذ أشكالا مختلفة أكثر عنفا وتأصلا أكثر من أي وقت مضى.
ففي المجتمعات التي جردت تماما من ثقافتها مثل المجتمعات الأوروأمريكية تقلصت الثقافة إلى أن أصبحت عبارة عن رسكلة تجارية لمخلفات وهمية، وأمان ضائعة، تحولت إلى ما يسميه جاك أوستروي بـ "السقط المشترك" أو "السخافة المشتركة"([48]).
وتقدم هذه المخلفات  للأسف "بنكا للمعلومات" يغذي الصراعات الإتنية المتفاقمة على خلفية اللاتمايز وفقدان الهوية . وهذا ما يفسر تنامي النزعات اليسارية في أمريكا اللاتينية والبحث عن تكوين محور اقتصادي سياسي تقوده البرازيل .
 إن النزعات المتعاظمة للانكفاء على الذات التي سببها التأحيد ومشاكلة الكوكب، والانخراط في حمى المنافسة بين الفضاءات والتجمعات تتزايد باستمرار وتميل أكثر فأكثر إلى العنف الأعمى، تأصيلا لكيانها وبحثا عن تارخانيتها الضائعة.
   إن الهوية الثقافية مطلب مشروع،وهي سر نهضة الجماعات،إلا أنها متى فصلت عن الوعي بالتاريخ الواقعي المسيطر تصبح على درجة معينة من الخطورة .<< إن الهوية الثقافية  - يقول سيرج لاتوش-  توجد "بذاتها" بين الجماعات الحية،أما عندما تصبح مطلبا "لذاتها" فإنها تتحول عندئذ إلى علامة دالة على الانطواء على الذات حيال خطر داهم يتهددها، ويخشى من أن تنحرف في اتجاه الانغلاق بل إلى التضليل والخداع>> ([49]).
وبما أن الهوية الثقافية هي عبارة عن منتوج تاريخي معين ومخزون من القيم المشتركة تكون بطريقة لا واعية فإنها تظل عند الجماعة مفتوحة ومتعددة أما عندما يتم تحويلها إلى أداة فإنها ،على العكس من ذلك تنغلق على ذاتها وتصبح استبعادية،أحادية،لا تعرف التسامح،وشمولية، وتواجه خطر الكليانية، عندئذ تجد نفسها غير بعيد عن التطهير العرقي. ذلك هو ما دعا ماكسيم رودنسون إلى نعتها بأنها "وباء الجماعات" >> ([50]).
وقد أدى نقد الهوية الثقافية بمؤلف "تغريب العالم" إلى بلورة نقد مزدوج للعولمة والعولمة المضادة التي يسميها بـ "العولمة الإسلامية" أو "العولمة الأخرى".
يقول سيرج لا توش << إن الدين الذي أطّر كبت ضحايا تهميش الحداثة،والذين خاب أملهم في المشروع النهضوي الناصري،البعثي والاشتراكي العربي،هو عبارة عن عقيدة مجردة،صارمة،كونية>> ويضيف قائلا : << وهكذا وجدت النزعة الكونية الغربية نفسها في مواجهة نزعة كونية أخرى في مثل قوتها،قائمة على رد الفعل>>([51]).
و مثلما وجدنا في الكتلكة مشروعا كونيا لتأسيس "مدينة الشمس" عند كامبانيلا ، فإن التيار الأصولي يضع في الوقت الراهن اللبنات  الأولى "لعولمة أخرى" بديلة بدأت بوادرها تلوح في الأفق.
إلا أن الأمر في نظر سيرج لاتوش لا يتعلق بطريق مختلف << فمناهضة التغريب عند ذلك التيار إرادة معلنة، لكنها لا تصل إلى حد التشكيك المطلق في جدوى الرأسمالية. فالتدبير التيوقراطي للدولة هو تحريف للحداثة أكثر منه مشروعا مختلفا عنها اختلافا جذريا. وبالتالي فإنه يتضمن رفضا للميتافيزيقا المادية الغربية، إلا أنه بحاجة إلى الإبقاء على "قاعدتها المادية" وعلى الآلة بشكل أخص>>([52]).
ويصف نايبول في كتابه"الحدود القصوى للإيمان" ([53]) مشروع "العولمة الإسلامية" بأنه مشروع "أسلمة الحداثة" قائلا : وكما أن لينين قد حدد الاشتراكية من خلال الشعار الذي أطلقه "السوفييت ثم الإنارة" فإن مهندسي التيار الإسلامي الإندونيسيين والباكستانيين قد حددوا مشروعهم من خلال برنامج "التقنية الاقتصادية المتفوقة ثم الشريعة". << إن الأصوليين الجدد - يقول أوليفيي روي - هم أولئك الذين تمكنوا من أسلمة العولمة عندما رأوا فيها إرهاصات إعادة بناء مجتمع إسلامي كوني وبطبيعة الحال شريطة عزل الثقافة المهيمنة: التغريب في ثوبه الأمريكي، لكنهم لكي يقوموا بذلك فإنهم لا يصنعون سوى كلي على غرار الكلي الأمريكي يحلم بالتوصل إلى "ماكدو حلال" (McDo hallal) أكثر من حلمه بالعودة إلى موائد الخلفاء الحقيقيين القدامى>>([54]).

وبمعزل عن آراء الكتاب الغربيين، ومخاوفهم من قيام عولمة بديلة تحطم "المعجزة الإغريقية" واستتباعاتها (اللوغوس وما نجم عنه من مشاكلة ميتافيزيقية للكوكب) فإن الشرق        - الذي هو في الواقع ليس "مجال استثناء الغرب" كما يقول صاحب "ورثة اللوغوس"- قادر بدوره على المطالبة بحصته في "الإرث" ، وعلى إثبات أن ورثة اللوغوس لا ينحصرون في قتلته فحسب - مع ما في ذلك من مفارقة - بل في من أمده بشرط الإمكان الأولي وساعده في استيطان فضاءات جغرافية وذهنية متنوعة قبل أن تدوس أرضه أقدام الغرباء..
خاتمة الفصل الثاني :
ثمة عدد من العناصر الجوهرية التي نستطيع أن نعزو إليها ما أسميناه بالهيمنة الثقافية للغرب. وإذا كنا نعتبر أن بعض تلك العناصر يدخل في نطاق العوامل الموضوعية التي لا يمكنها إلا أن تحدث، فإن بعضها الآخر يدخل في إطار الإرادة الشمولية الواعية تماما بحدود ممارستها.
ولعل من أبرز آليات الهيمنة:
 الإيمان الميتافيزيقي بفكرة الاتصال المطلق: والنظر إلى "العقل الكوني" نظرة خطية،ابتداء بالأصول الهلنستية،اليهودية والمسيحية،مرورا بالحداثة،التي نظر إليها على أنها تجسيد فعلي لذلك العقل الكوني من خلال السيطرة التامة على الطبيعة (بمفهومها الواسع بما في ذلك الإنسان) من خلال التقنية، وانتهاء بالثورة الرقمية والعصر التقني المتقدم. وقد كان من نتائج هذا العقل الكوني شخصنة التراث الإنساني، وتذويت ثقافة العالم - التي هي في الواقع عبارة عن معادلة مركبة - واختزالها في متغير واحد وتحويل الباقي إلى "ورشة فسيحة للمخلفات".
 ولم يكن العلم في كل هذه المراحل سوى آلية أخرى من آليات الهيمنة حيث استخدم لقهر الطبيعة بمعناها الواسع ،وكان دائما معبرا عن شكل معين من أشكال "إرادة القوة". وقد تجلى ذلك من خلال تحويل الآخر إلى "موضوع" للدراسة والتجريب. وهكذا تحول الغرب إلى ذات كلية كل ما عداها مجرد موضوعات جعلت إما للاستعمال (الاستعمار الثقافي ـ الاقتصادي ـ الاستيطاني ـ والعولمة بما هي إرادة للهيمنة)؛ وإما للمعاينة والتجريب (كما هو الشأن في الخطابات الأنثروبولوجية).
 إلا أن تحويل الآخر إلى موضوع لم يكن ممكنا بمعزل عن التاريخانية الضائعة  . وقد رأينا كيف استطاع الغرب أن يحول لحظات انكساره إلى مصادر من الدفق الحيوي اللامحدود وذلك بإحلالها في خانة "عمل السلب" الذي تستعيد عن طريقه الذات ما فاتها من تعارض واختلاف وتستوعبه في محيطها فيتحول بذلك إلى مصدر من مصادر قوتها.
وفي تقديرنا أن الحنين إلى الماضي والتاريخانية الضائعة، وتجاهل الحاضر أو التاريخ الواقعي المسيطر واعتباره سلبا مطلقا، هو عامل مهم يفسر الوضع الذي نحن فيه. واعتقد أن "السلب" ،الذي هو العنصر المحرك للتاريخ، قد يصبح عاملا مهما من عوامل نهضتنا، عندما يتم البحث في الشروط الموضوعية لتأسيس خطاب جديد حول الذات يعيدها إلى دائرة الفعل من جديد ويخرجها بالتالي من دوامة الوعي الارتكاسي.
إن شعبا لم ينهزم يوما واحدا لا يمكنه أن ينتصر !!
 ♦ينضاف إلى تلك العوامل،آلية أخرى تعزز هيمنة الغرب - باعتباره فضاء اقتصاديا  متجانسا ساهمت التقنية في تشكله ـ على الفضاءات الأخرى. فوراء الحياد الظاهر للسلعة تقبع إرادة شمولية عنوانها التفوق التقني. وإذا كانت العولمة تتيح في الظاهر حق مختلف الفضاءات في الاستفادة من فوائدها الجمة بإشاعة التقنيات الجديد وغيرها،إلا أن ذلك يستدعى وصول تلك الفضاءات إلى مستوى معين من التطور التقني، والتنظيم السياسي الديمقراطي يجعلها طرفا فاعلا لا منفعلا فحسب. وهذا يعني أن المجتمعات التي تعيش الآن مرحلة ما قبل الدولة وتسودها الولاءات العمودية، القبلية والعشائرية،لن تكون قادرة أصلا على الاستفادة من فوائد العولمة وستدفع لوحدها فاتورة "التخلف" وتتحول في أحسن الأحوال إلى مجتمعات استهلاكية لكل ما ينتج في سائر الفضاءات الجغرافية والذهنية.
وهنا نميز بين تيارين في الساحة الثقافية العربية: تيار المثاقفة والمشاكلة وتيار الخصوصانيين. وقد وجد الفكر العربي نفسه رهينا لنزعة مانوية خطيرة : إما الانطواء المطلق على الذات والانكفاء على الماضي بكل رموزه وشخوصه، وإما الذوبان الكامل والانصهار في الآخر الحضاري على اعتبار أن الديمقراطية والعلم والوسائل التقنية المختلفة هي ملك للجميع وفي مقدور كل طرف الإسهام فيها واستخدامهما قدر طاقته.
والحال أنه إذا صح القول بأن الديمقراطية والعلم لا دين لهما، فإنه لا يمكن فصل التقنية عن أخلاقها، وعن هيمنة من يمتلكها على من لا يمتلكها، ولنا في الجدل الدائر حاليا حول شرعية امتلاك التقنية النووية خير مثال على ذلك. فلم لا نكون نحن من جملة من يمتلك التقنية على الأقل في مرحلة أولى. ويقتضى هذا الأمر في نظرنا الإجراءات الخصوصية الآتية:
1-  إنشاء منطقة حرة للعقل،وتحرير الطاقات البشرية من كل المعوقات المادية والمعنوية، وتحرير العقل العربي من أوهام "الكهف" و"المسرح"..
2-  تطوير مؤسسات البحث العلمي وزيادة الميزانيات المخصصة لها. والمدهش أن الميزانية المخصصة حاليا للبحث العلمي في معظم الدول العربية كانت حتى وقت قريب جدا لا تتجاوز الواحد بالمائة من الميزانية العامة للدولة!
3-  دعم عودة العقول المهاجرة وأصحاب الخبرات التقنية في شتى المجالات وتوفير الشروط الضرورية لذلك.
4-  استعادة الأموال العربية والودائع في البنوك الأجنبية وتوظيفها في تمويل مشاريع استثمارية نموذجية في إطار التعاون المشترك وتبادل الخبرات بين الدول العربية.
5- الرفع من مستوى المنتوج المحلي حتى تكون له قدرة تنافسية حقيقية.
 ♦إلا أن أخطر آليات الهيمنة الغربية يتمثل في وسائل التعبير الثقافي (كالسينما والإعلام) على سبيل المثال لا الحصر لأنها تزرع في الشباب ثقافة الانهزام باصطناع صورة مرعبة للآخر: "الإرهابي" "الدموي" "المتوحش".. وتصنع في المقابل صورة "مأسطرة" للغرب باعتباره "آلة هائلة" لا تقهر. وتكمن خطورة هذه الآلية في نوعية الجمهور الذي تستهدفه من جهة وفي عدم وجود أية استراتيجية عند الطرف الآخر لمواجهتها.
وفي تقديرنا فإن الحل الأمثل لا يكمن في المواجهة بل في خلق بيئة إعلامية سليمة،لا تعبد الأوثان، وتخاطب الآخر بلغته،كما يخاطبنا بلغتنا،وتعرفه بما يجهله عن ثقافتنا وديننا وقيمنا التي تنبذ الإرهاب  والتطرف والعنف ،لكنها في الوقت ذاته تأبى الاستكانة والقهر والإذلال وهي قيم كونية. ولا بد لهذا الغرض من تحرير الإعلام،وأن يفهم إعلاميونا وسياسيونا أن الإعلام في الغرب،باعتباره الذراع الأيديولوجي للعولمة،لا تقف وراءه الدول والحكومات وإنما مؤسسات ثقافية وإعلامية حرة يوحد بينها وعي مشترك قد لا يتناقض بالضرورة مع السياسات الرسمية،وهذا ما نحتاج إليه نحن أيضا.



[1]  بحث مقدم في "اليوم العالمي للفلسفة 2010 "  تحت عنوان : "الفلسفة والتنوع الثقافي والتقارب بين الثقافات" نظمه كرسي لليونسكو للفلسفة في العالم العربي تحت رعاية المنظمة العالمية للتربية الثقافة والعلوم : تونس 27- 28 نوفمبر 2010.
[2] Jean Pierre Vernant , Cosmogoniques , article (mythes) dans le dictionnaire  des mythologies, Dir. Y. Bonnefoy ,Paris , Flammarion.
[3]  تلك هي خلاصة ميتافيزيقا التاريخ الهيغلية وهي ذاتها الخلاصة التي انتهى إليها أوغست كونت عندما اعتبر التقدم الفكري أبرز أنواع التقدم لأنه يكرس الصيرورة الأحادية للمجتمع الغربي.
[4] Gianni Vattimo, La fin de la modernité ,nihilisme et herméneutique dans la culture post-moderne ,Trd. Charles Allunni ,Ed. Seuil , Paris, 1987, p. 171.
انظر ترجمتنا للفصل العاشر من هذا الكتاب بعنوان:جياني فاتيمو:العدمية وما بعد الحداثة في الفلسفة،مجلة فضاءات،دار الأصالة والمعاصرة،العدد 19-20،مايو/يونيو 2005،ص 63.
[5]   Jean Baudrillard, la violence de la mondialisation,  Le Monde diplomatique  , Novembre ,2002 , p.18.(texte tiré de son nouvel essai :  Power  inferno  ,Galilée , Paris ,p.12.
[6] جياني فاتيمو،مرجع سبق ذكره،ص 176. انظر ترجمتنا للفصل العاشر من هذا الكتاب (نهاية الحداثة) بعنوان: العدمية وما بعد الحداثة في الفلسفة،مجلة فضاءات،العدد 19-20 ، 2005 ص 63 وما بعدها.
[7]بول لوران آسون ،مدرسة فرانكفورت،ترجمة سعاد حرب،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت،1990،ص 114.

[8] Gianni Vattimo, op. cit.,p.8.
[9] فتحي التريكي/رشيدة التريكي، فلسفة الحداثة،مركز الإنماء القومي،بيروت،1992،ص 13.

[10] F. Lyotard ,Cahiers de philosophie, n° 5,1988.
[11] Gianni Vattimo, op.cit., p.7.
[12] Ibid.,p.7.
[13]  ماكس فيبر ، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، ترجمة محمد علي مح ، مراجعة جورج أبي صالح ، مركز الإنماء القومي ، بيروت ، ص148 .
[14]  ماكس فيبر ،مرجع سبق ذكره، ص 148.
[15]  بريس روبنس، "مثقفون بلا ثقافة، مهمة مستحيلة"، ترجمة البكاي ولد عبد المالك، مجلة فضاءات للفكر والثقافة والنقد ،دار الأصالة والمعاصرة ، طرابلس العدد،11، 2004، ص 31.
[16]  نفس المرجع ص 29.
[17]  بول لوران آسون،مرجع سبق ذكره،ص 114.
[18] Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, op.cit.,p.17.
[19]  Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, op.cit.,p.17.
[20]  Ibid.,p.16.
انظر كذلك ، فتحي التريكي، العقل والحرية، تبر الزمان، 1998، تونس، ص 141.
[21]  Jean Baudrillard, "La violence de la mondialisation" ,Le Monde diplomatique ,novembre,2002,p.18.
[22]  Ibid.,p.18.
[23]  Ibid.,p.18.
[24]  Ibid.,p.18.
[25]  ماكس هوركهايمر، فلسفة التاريخ البرجوازية،ت محمد علي اليوسفي،دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1989، ص 66.
[26]  Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, op.cit.,p.17.
[27] Ibid. ,p. 23.
[28]  نسبة إلى القرون الوسطى وتمييزا لها عن العولمة القديمة الهلينية والهلنستية والعولمة الحالية .
[29]   Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, op.cit.,pp.17-18.
[30]  Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, op.cit., p.9.
[31] Ibid.,p.94.
[32] Serge Latouche, l’occidentalisation du monde, Ed. La découverte , poche, Paris ,2005, Préface.
[33] ديمقراطية التكنولوجيا- ديمقراطية التمويل- ديمقراطية المعلومات.
[34] Serge Latouche,op.cit.,p.9.
[35] Serge Latouche, l’occidentalisation du monde , op. cit., préface à l'édition de 2005, p.10 .
[36]  عبد المنعم المحجوب،ورثة اللوغوس ،المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر،طرابلس،2004،ص 120.
[37] Serge Latouche , op.cit., p.10.
[38] Serge Latouche , op.cit., p.11.
[39] Ibid.p. 11.
[40] Serge Latouche , op.cit., p.12.
[41]  Serge Latouche, op.cit.,p.18.
[42] Serge Latouche , op.cit., p.13.
[43]  المانوية مذهب ماني الفارسي صاحب عقيدة الصراع بين النور والظلام.

[44] برهان غليون/سمير أمين،ثقافة العولمة وعولمة الثقافة،دار الفكر المعاصر،بيروت/دمشق،1999،ص 46.
[45] Cf. David Rothkopf ,In Praise of cultural imperialism ? Foreign  Policy , 107 ,Washington,1997,cité par Serge Latouche , op.cit. p.16.

[46]  برهان غليون/سمير أمين،مرجع سبق ذكره،ص 45.
[47] Serge Latouche , op.cit., p.16.
[48]   Cf. Jaques Austruy, Le scandale  du développement , (réed.  Clairefontaine, Genève –Paris ,1987e, cité par Serge Latouche, op.cit., p.16.
[49] Serge Latouche, op.cit.,p.17.
[50] Cf. Maxime Rodinson ," la peste communautaire" ,Le Monde diplomatique , décembre ,1989,cité par Serge Latouche, op.cit.,p.17.
[51] Serge Latouche , op.cit., p.18.
[52] Ibid.,p. 18.
[53]  Cf. Vidiadhar Surajprasad  Naipaul, Jusqu’au bout de la foi ,Plon ,Paris ,1998 , cité par Serge Latouche , op.cit., p.19.
[54] Olivier Roy, L’islam au pied de la lettre ,Le Monde diplomatique ,avril , 2002. ,cité par Serge Latouche ,op. cit., p.19.