الثلاثاء، 26 مارس 2019


Pierre Bonte,L’ « ordre » de la tradition, évolution des hiérarchies statutaires dans la société maure contemporaine.
بيير بونت،"نظام الطبقات" التقليدي، تطور تراتبية المكانات الاجتماعية في  المجتمع البيظاني المعاصر([1]):ترجمة،د.البكاي عبد المالك

كان المجتمع الموريتاني في عهد الاستعمار الفرنسي منظما بحسب نموذجين من القيم الاجتماعية وهما : القيم القبلية المساواتية والتي يتم التعبير عنها بلغة القرابة باعتبارها نتيجة لأصل اجتماعي واحد أو نسب مشترك، والقيم الطبقية للمجموعات ذات المكانة الاجتماعية الثابتة وهي التي أطلقنا عليها اسم " الطبقات"- قياسا على الأنظمة السياسية القديمة ([2]) - التي تشمل هي ذاتها عددا من القبائل ويتم التعبير عنها من خلال بعض الرموز الثقافية المختلفة وتتعلق ببعض الواجبات أو الامتيازات التي تجد قيمتها في نهاية الأمر بالعودة إلى تراتبية سياسية معينة.وتندرج هذه التراتبية السياسية في بعض الأجزاء من موريتانيا (الترارزة، البراكنة،آدرار،تگانت) في إطار الإمارات([3]).
سنحاول في هذا المقال أن نثبت كيف أن هذه القيم الطبقية – على الرغم من تحولها في ظل الاستعمار الفرنسي - ولكن أيضا نتيجة لذلك التحول ذاته - لا تزال قائمة حتى أيامنا هذه وكيف تتداخل بشكل كبير مع المشكلات الاقتصادية والسياسية التي غالبا ما تطرح في صيغ أخرى.
فلنذكر أولا وبشكل مختصر بالطريقة التي نشأت بها تلك التراتبية للمكانات الاجتماعية.فقد كان المجتمع البيظاني الأميري يحتوي على ثلاث طبقات اجتماعية وهي: حسان المنحدرون من قبائل بني هلال العربية ، يحملون السلاح ويخضعون لنظام صارم من الرموز الدالة على المجد و الشرف.وفي حضن هؤلاء تكونت الإمارات([4]).و"الزوايا" ويشكلون مجموعة أقل تجانسا سواء على صعيد الأصول التي انحدروا منها (فمنهم الشرفاء الذين تعود أصولهم إلى النبي (ص)ومنهم العرب أو البربر) أو على صعيد البنية الاجتماعية (حيث توجد إضافة إلى القبائل بعض الطرق الصوفية التي تأخذ شكل التنظيم القبلي) والمكان السياسي الذي تحتله (فهناك "زوايا الظل" التابعون لحسان وهناك "زوايا الشمس" المستقلون سياسيا).وتعود وحدة هذه الطبقة الاجتماعية إلى تمسكها بمرجعية موحدة من القيم والرموز الثقافية الإسلامية.وكان الزوايا كذلك يضطلعون بدور اقتصادي كبير يتمثل في السيطرة على الآبار والمراعي والأراضي الزراعية وتسيير الطرق التجارية [طرق القوافل].وأخيرا "آزناگه" المنحدورن من أصول بربرية وهم إما منمون أو مشتغلون بالواحات وغرس النخيل وكانوا خاضعين لحسان ويدفعون لهم إتاوات مختلفة في مقابل حمايتهم عسكريا.
وكان يوجد داخل كل طبقة اجتماعية كذلك تراتبيات اجتماعية تسمح بتصنيف القبائل في مراتب مختلفة ([5]).بل إن قاعدة التصنيف التراتبي هذه توجد كذاك داخل القبائل([6]) حيث يتدخل الأصل والنسب في كل حالة كشكل من أشكال الأيديولوجيا الاجتماعية والسياسية التي تحدد أنماط التضامن الاجتماعي (العصبيات) وترتبها بشكل تفاضلي في الوقت ذاته ([7]).
وتعد نشأة التراتبية الطبقية نتيجة لمسار تاريخي مزدوج يعكس كذلك مستوى تعقد القيم المتعلقة بالسلطة.ولتبسيط الأمور شيئا ما يمكننا اعتبار التمييز بين حسان والزوايا نتيجة لصراع يجمع بين القيم الإسلامية وقيم أخرى نابعة من النظام القبلي.وتبدو حرب "شرببه"، التي هي الدستور الحقيقي لذلك التعارض بين القيم،([8])بمثابة التعبير عن فشل لحركة تيوقراطية وجهادية ([9]) من بعض الوجوه في مقابل تحالف من قبائل محاربة . وتبدو المؤلفات السياسية التي كتبت في إطار تلك القبائل الزاوية ([10]) وفقا لرؤية أخروية للنظام الاجتماعي، أكثر حرصا على إقامة تفاهمات مع السلطة منها على تأسيس نظام حكم إسلامي.وأما التمييز بين "حسان" و"آزناگه" الذي اكتمل مع نشأة الإمارات الحسانية فيندرج من جهته في إطار أيديولوجيا النبل والحماية . وتعكس الهزيمة العسكرية لـ "آزناگه" عجزهم عن توفير تلك الحماية والدفاع عن شرفهم وهو ما يعبر عنه اللفظ المستخدم للإشارة إلى العلاقات بين تينك المجموعتين [وهو لفظ "الحرمة"]([11]).
وتظهر هذه القيم التراتبية المتناقضة في بعض الأحيان وبشكل خاص في سياق حركية اجتماعية وطبقية أصبحت جارية ومألوفة بشكل لا توحي به الصرامة الظاهرة للأنظمة الاجتماعية الطبقية الجامدة جنيالوجياً [الجامدة فيما يتعلق بالأصول الاجتماعية] .هكذا يمكننا أن نصبح من بني حسان بالانتساب إلى إحدى القبائل التي تنتمي إلى تلك الطبقة انتساب يتم اعتماده جنيالوجياً فيما بعد.فلا يندر أن تجد في بعض القبائل الحسانية ذات المرتبة الدنيا في السلم الاجتماعي سلالات بكاملها تنتمي إلى أصل آخر وقد تعود أصولها أحيانا إلى الحراطين([12]) وهم العبيد السابقون.ففي مجتمع حاله حال مجتمعات أخرى ناطقة بالعربية أو مسلمة - حيث يحظر على النساء الارتباط بعلاقات زوجية من خارج الطبقة الاجتماعية التي ينتمين إليها،أي في مجتمع يحدد التراتبية الاجتماعية للمكانات ويساهم في خلقها- يظهر رهان التحالفات الزوجية في مثل هذه المناسبات : فتساعد الزيجات والمصاهرات بين السلالات الحسانية وبين السلالات المندمجة فيها على ذلك النحو يؤدي إلى تعزيز الانصهار كما يعبر عن ذلك المثل البيظاني القائل :"يجعل آباءهم سواسي"([13]).
وفي المقابل فإن "توبة" بعض البطون الحسانية الذين يفقدون مكانتهم كمحاربين وامتيازاتهم السياسية بسبب عودتهم إلى الفهم الدقيق للإسلام تترجم إعادة ترتيب المجموعات في ضوء الصراعات على السلطة أكثر مما تترجم الصراع بين القيم السياسية الحسانية والزاوية: فالعودة إلى القيم الإسلامية معناه التخلي عن السلطة ([14]).ومع ذلك فإن الحركية الاجتماعية في هذا الجانب أو ذاك حتى وإن كانت قوية وتتعلق بجماعات مهمة من الناحية الديمغرافية وتسمح باستمرار العديد من المبادرات الفردية والجماعية ([15])،إلا أنها تحترم تراتبية القيم وتظهر في شكل إعادة فرز وترتيب للمكانات الاجتماعية بالانتقال من طبقة إلى أخرى بل وحتى في شكل إعادة ترتيب قبلي بفعل انضمام بعض الأفراد والجماعات إلى قبيلة جديدة.
إلا أن تراتبية المكانات الاجتماعية لا تتوقف فقط عند حدود هذا التنظيم الطبقي للمجتمع الذي يخص فئة "البيظان"(البيض)وحدهم.فالعبيد و"الحراطين"(العبيد المحررون) الذين يطلق عليهم عموما اسم "السودان"- وتعني السود- يوجدون خارج ذلك التنظيم في بعده المزدوج: الطبقي والقبلي. فحالة العبيد هي حالة بسيطة نسبيا فهم مرتبطون بأسر أسيادهم حتى وإن كان في الإمكان ملاحظة بعض الفروق في المكانة بين هؤلاء بحسب أصولهم (بين من تم شراؤهم وبين من ولدوا داخل الأسرة) وبحسب الوظائف التي يؤدونها.في حين أن حالة "الحراطين" هي حالة أكثر تعقيدا بكثير فهم لا يشكلون قبائل قائمة بذاتها لكنهم ظلوا مرتبطين بعلاقات زبونية تميل إلى حد ما لصالحهم – مع قبائل أسيادهم السابقين.وقد يختلف تصنيف مكاناتهم الاجتماعية إلى حد كبير:فهناك "الحراطين" المحاربون في الإمارات،وهناك "الحراطين" "تلاميذ" (tlamÎd) كبار المشايخ وهم في الغالب مزارعون أو عمال بالواحات، لكنهم جميعا ظلوا مستبعدين من التنظيم الجنيالوجي [المتعلق بالنسب] للقبائل والطبقات الاجتماعية.وبناء على ذلك ظلوا يحملون وصمة عار العبودية التي يعبر عنها بشكل أخص حرمانهم من الانتساب إلى الأصل المشترك.كما أنهم في الغالب يظلون خارج النظام الرعوي البدوي وهو النشاط السائد المفضل لدى السكان ويختصون بالزراعة وغرس النخيل.بيد أن هذه الحرفة ليست محايدة : فبمقدار التكامل الضروري الذي توفره "للحراطين" لولوج أنظمة الإنتاج الرعوية فإنها تسهل ديمومة السيطرة الاجتماعية عليهم عن طريق التحكم في الملكية العقارية التي يمارسها "البيضان" في إطار النظام القبلي([16]).
هذا هو المجتمع الذي اكتشفه الفرنسيون عند مجيئهم والذي وصفوه حتى قبل الغزو الاستعماري في ضوء تقييمهم الخاص لهذه التراتبيات الاجتماعية وللقيم التي تحكمها.وسنتوقف بشكل أطول عند هذه التمثلات الاستعمارية لأنها مرتبطة بالسياسات التي اعتمدها المستعمر وبتحول تلك التراتبية الاجتماعية للمكانات طوال فترة الاستعمار.
ويتعلق الأمر على حد تعبير گزافييه كبولاني (X.Coppolani):"بتنظيم اجتماعي شبيه بذلك الذي عرفناه نحن في العصر الوسيط...فالنبل يمثله "حسان"...ورجال الدين يمثلهم "أرباب الكتاب" أو مفسرو القرآن المتمسكون به مع من يحيط بهم من أصحاب المغارم والمُقطَعين(vassaux)([17])والعبيد"([18]).وباختصار فإن الأمر يتعلق بـ "نظام إقطاعي" يتعين على ورثة الثورة الفرنسية أن يغيروه باسم مهمتهم الحضارية.وقد اعتمد كبولاني من الناحية السياسية على "الزوايا" وهي طبقة حاذقة إن لم نقل مجتهدة ومثابرة([19]) وعلى كل "المستغَلين" في "الدولة الثالثة" (Tiers- Etat) ضد "حسان" المحاربين لكي يباشر غزوه "السلمي" لموريتانيا والذي توقف بسبب مقتله في تجگجة سنة 1906م([20]).
بيد أن صعوبات الغزو الذي أصبح منذ ذلك الحين عسكريا بشكل معلن – ومنها استمرار مقاومة "البيظان" بعد احتلال آدرار سنة 1909م التي غذاها انشقاق قبائل الشمال- ستغير بشكل محسوس الصورة الموجودة لدى المستعمر عن التراتبية الطبقية.وهي صورة حددها منذ ذلك التاريخ [قادة] عسكريون من أمثال غورو(Gouraud) وباتي (Patey) وموريه (Mouret) وغيرهم الذين قاموا بغزو كان أقل يسرا مما خطط له كبولاني.وقد كان هؤلاء [القادة] العسكريون على استعداد تام لقبول تراتبية اجتماعية تشجع الخصال الحربية التي كان المستعمر بحاجة إليها (تكوين الجيش الشعبي [گميات] في بادئ الأمر ثم الكتائب المتنقلة بعد ذلك ) لاحتواء ضغط المنشقين([21]).وقد حددت "التوجيهات" التي بعث بها العقيد باتي (Patey) المسؤول المكلف بالعمليات في موريتانيا سنة 1912م إلى خليفته([22])،سياسة تم اتباعها لفترة طويلة في المستعمرة.وقد تم تجسيد المبدأ الذي أكده غورو مرارا -عندما احتل آدرار([23]) القاضي بالحفاظ على النظام الطبقي للمجتمع البيظاني- على الصعيد السياسي : بإقامة نظام للحماية على الإمارات نظام ظل ساري المفعول على الأقل في آدرار حتى سنة 1920م،وعلى الصعيد الاجتماعي: بعدم التعرض قدر الإمكان للبنيات السابقة حتى وإن كان الحفاظ عليها يتعارض مع المهمة "الحضارية" التي تضفي الشرعية على المشروع الاستعماري([24]).
ذلك التناقض يبدو أكثر وضوحا فيما يتعلق بالعبودية.وتوجد العديد من الأمثلة الشاهدة على الالتزام بالحفاظ على العبودية تظهرها قراءة الوثائق الاستعمارية لا نذكر منها سوى شاهد واحد ينطوى على دلالة خاصة([25])ويتعلق الأمر برسالة من الوالي الملازم غادان (Gaden) إلى قائد الكتيبة ، الحاكم العسكري لآدرار([26]) يقول فيها:
"تتضمن كل عهود الأمان التي منحناها لـ "البيظان" أننا سنحترم وضعهم الاجتماعي وممتلكاتهم.وعليه فقد اعترفنا بالوضع القائم حيث يبقى العبيد لدى عائلات أسيادهم التي يشكلون اليد العاملة فيها.فعندما تقدمت قبيلة السماسيد بأطار إلى العقيد غورو في يناير سنة 1909م بينوا له أن ثروتهم الوحيدة تتكون من الضأن والحمير وما تنتجه الأرض وأنهم بدون اليد العاملة التي لديهم فإن مصدر عيشهم الرئيس ومحاصيلهم ستضيع.فكان مفهوما بالطبع مطالبتهم ببقاء عبيدهم معهم.
ومع اعترافنا بالأمر الواقع فإن ذلك لا يعني أبدا أنه في مقدورنا السماح بتجارة الرقيق أي ببيع الأشخاص إلى الأجانب.فهذه التجارة غير المشروعة بمعزل عما تنطوي عليه من أمور مذمومة، تتعارض مع مصالح السادة الذين يفقدون بفعل ذلك البيع يدا عاملة لم يعد في مقدورهم تعويضها لأن السلم الذي أقمناه في موريتانيا لم يعد يسمح في الواقع بجلب العبيد من الجنوب وهذا الأمر يعرفه "البيظان" جيدا.وبناء على ذلك يجب علينا أن نمنع تجارة الرقيق بكل ما نقدر عليه من وسائل.
ومع ذلك فهناك مسألة أعتقد أن علي أن ألفت عنايتكم إليها فقد يحدث أن تنص بعض عقود البيع بين "البيظان" في تعيين المهر مثلا، على أن عبدا ما سيمنح للزوجة من طرف الزوج. ولا يوجد في حالة كهذه جريمة اتجار بالرقيق لأن العبد الذي اعترفنا بحالته يبقى داخل الأسرة ولا يغادر البلاد أبدا وليس في الأمر خسارة لسيده ".
و نجد هنا بكثير من الواقعية إن لم نقل بكثير من الصلف والوقاحة عرضا للجزء الأهم من السياسة الاستعمارية تجاه الرق ويتعلق الأمر بتأبيد ممارسة ضرورية بـ "تلطيفها".
أما فيما يتعلق بـ "الحراطين" فإن تلك السياسة كانت أقل وضوحا منها حيال العبيد بالطبع لأن حالتهم باعتبارهم زبناء يتمتعون بالحرية هي في حد ذاتها أقل سهولة للضبط من خلال مفاهيم يمكن إدراكها ولكن أيضا لأن وظيفتهم العامة شيئا ما باعتبارهم منتجين زراعيين جعلت منهم إحدى رهانات السياسة الاستعمارية في جانب آخر من جوانبها : وهي تشجيع تثبيت السكان البدو وتنمية الإنتاج الزراعي من أجل الوصول إلى استقلال ذاتي للمستعمرة.فمن جهة سهلت الإدارة الاستعمارية استقرار "الحراطين" في "آدوابه" (ج "أدباي")وهي تجمعات مستقلة وثابتة غير متنقلة ولم تعد مهددة بالنهب والسلب من جانب "حسان".ومن جهة أخرى تعترف تلك التجمعات بالتنظيم القبلي وبالحقوق المشتركة لـ"البيظان" على  الأرض ([27]) وهو ما يسهل إقامة أنظمة تعاقدية جديدة قائمة على أشكال معينة من المزارعة تقرر تسليم جزء مهم من المحصول إلى المالك (قد يصل إلى النصف).وفي مثل هذه الظروف التي تكاد تكون في مصلحة السيد أكثر منها في مصلحة العبد تزايدت العبودية المنزلية وتحرير الرقيق سواء في الأراضي الزراعية في الجنوب أم في واحات النخيل في آدرار وتگانت([28]).
وتطرح مسألة "الحرمة" و "الغفر"([29]) عندما نحلها في إطار نظام الطبقات في المجتمع "البيظاني" نفسها من منظور آخر مختلف تماما :فعلى هذه الإتاوات والمكوس تتأسس السلطة التقليدية لحسان والبنية السياسية للمجتمع الأميري: لذلك منحتها الإدارة الاستعمارية فيما بعد عناية خاصة([30]).وأما المبدأ فهو كما رأينا تأبيد نظام يبدو ضروريا لاستمرار نمط عيش المحاربين. وسيتم الدفاع عن ذلك المبدأ حتى ضد مطالب "آزناگه" وخاصة ضد مطالب بعض "الزوايا" الذين طالبوا بإلغاء الإتاوات باسم الشريعة الإسلامية([31]).وبالفعل فإن السياسة المتبعة متغيرة جدا بحسب السياقات المحلية :فحيثما كان نفوذ حسان ووزن الإمارة خاصة قويين يبقى نظام الإتاوات ساري المفعول لكن ليس دائما من دون صعوبات ([32]) كما هو الشأن في إمارة آدرار مثلا أما في إمارة البراكنة وفي إمارة تگانت بدرجة أقل حيث كان ذلك النظام أقل تقعيدا وتقنينا فقد اختفت الإتاوات منذ العقد الأول أو الثاني من القرن الماضي.فإزاء مطالب "آزناكه" الذين لم يعودوا يشعرون بالحاجة إلى حمايتهم من "حسان" وقد ابتعدوا عنهم في بعض الأحيان مستغلين حرية الوصول إلى المراعي التي قررتها الإدارة الاستعمارية أصبحت هذه الأخيرة كثيرا ما تستعمل الإجراء الذي يقره القانون العرفي والقاضي بدفع الإتاوة عن جزء من ممتلكات دافعي الغرامات.وقد انتهى الأمر بالسلطات التي قامت في البداية بالمناورة في تطبيق ذلك الإجراء على مراحل بأخذ الظروف المحلية ([33]) في عين الاعتبار إلى تعميمه: وقد بدأ العمل بالافتداء العام لـ "الحرمة" في الترارزة سنة 1944م وانتهى العمل به في آدرار سنة 1952م.
ويندرج هذا المشهد الأخير ضمن سياق جديد نابع من الاستعمار وقد أثر ذلك المشهد في مجمل التراتبيات الاجتماعية وفي المقام الأول في تراتبية الأنظمة الطبقية. صحيح أن النظام السياسي الأميري الذي هو التعبير الظاهر عن سلطة "حسان" ظل قائما بالطبع لكنه قد أفرغ من محتواه([34]) ولم يبق منه سوى بعض العلاقات المميزة بين بعض شيوخ "حسان" الذين هم عبارة عن أعوان عسكريين وبين الإدارة الاستعمارية. إضافة إلى ذلك فقد أدى بسط السلم على عموم البلد الذي تم بشكل نهائي ابتداء من سنة 1934م بدوره إلى تقليص تلك الوظيفة.وقد نشأت علاقات اقتصادية جديدة قائمة على الوعي بأهمية السياسات النقدية في ضبط الحياة الاقتصادية (la monétarisation) وعلى تطوير المبادلات التجارية: فقد كان للضرائب والنمو القسري للأسواق (كسوق الماشية مثلا لغرض التصدير إلى الأسواق السنغالية)والدخول الحر لمنتجات التصدير (كالقماش والشاي والسكر..إلخ) دور كبير في التحفيز على تلك التحولات الاقتصادية.وقد زادت وتيرة تلك التحولات الاقتصادية بفعل سلسلة من الأزمات ارتبطت في الغالب بفترات من الجفاف كانت أخطرها الأزمة التي حدثت ما بين عامي 1942م و 1946م التي زاد من تأثيراتها إغلاق حدود المستعمرة أثناء الحرب([35]).
في هذا المجتمع الاستعماري، وبمعزل عن الفوارق الطبقية، وجد كل فرد نفسه وقد تحول إلى منتج للسوق وستزداد مكانة "الزوايا" قيمة.وقد عرفت بعض القبائل التي كان بعضها منخرطا في النظام التجاري ما قبل الاستعمار (مثل إداو علي) وأخرى أخذت في التكيف مع الظروف الجديدة (مثل السماسيد) تطورا اقتصاديا ملحوظا.ومع أن السلطة الاقتصادية لـ "الزوايا" كانت قائمة بالفعل إلا أنها اكتست منذ ذلك الحين أهمية جديدة. ويعكس التطور الجديد للطرق الصوفية الإسلامية وخاصة للطريقة التجانية التي أدخلها "إيداو علي" إلى موريتانيا في القرن التاسع عشر تحولات السلطة هذه.وفي المقابل تأثرت "آزناكه" بل وحتى "حسان" أنفسهم الذين تحول البعض منهم إلى تربية المواشي والزراعة وغرس النخيل بالواحات تأثر قويا بتلك الأزمات.وقد كان ذلك الفقر [الناجم عن تلك الأزمات] أحد الأسباب التي أدت إلى تحرير "الحرمة" فورا بعد انتهاء الحرب.
لقد تميزت هذه الفترة أيضا بظهور حركة سياسية موريتانية أبرزت التوجهات الجديدة للمجتمع البيظاني.ولئن كانت المبادرة تعود في إنشائها إلى بعض الزوايا والتجار المنحدرين من قبيلة إيداو علي بصفة خاصة ([36]) والذين تجمعوا ابتداء من سنة 1947م في إطار حزب "الاتحاد التقدمي الموريتاني" فإن المرحلة الفاصلة ما بين عامي 1946و1951م قد انطبعت باضطرابات عرفت صدامات بين هذه القوى الجديدة وبين الشيوخ التقليديين وخصوصا من "حسان" .
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم عن إعلان النوايا الحكومية بعد الاستقلال إلا وجود تلك الزعامات بما فيها الزعامات الأميرية، لم توضع أبدا محل شك حتى أيامنا هذه حتى وإن كانت ممارستها قد تغيرت بشكل كبير.فقد تكيفت جزئيا مع الظروف السياسية الجديدة:فنجد ممثلين لتلك السلالات من الزعامات التقليدية في "حزب الشعب الموريتاني" أو في الجمعية الوطنية قبل سنة 1978م، كما نجدها حاضرة في مختلف الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا.
وحتى وإن كانت رهانات السلطة ابتداء من هذه الفترة وبشكل أوضح بعد استقلال موريتانيا ، لم تعد تتوافق مع تلك التي حددها نظام التراتبية الاجتماعية الهرمية إلا أن هذا الأخير لا يزال يقدم نموذجا من التمثلات الفعالة نسبيا على الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية التي عرفها المجتمع البيظاني .وتعود تلك الديمومة إلى طريقة ارتباطه بجوانب أخرى من البنية الاجتماعية ويتعلق الأمر بالتنظيم القبلي .فما يبدو أنه على المحك بالمناسبة هو بقاء العصبيات القادرة على التكيف مع ذلك السياق الجديد. ففي مقدور أنماط التضامن القبلي أن تعمل في الواقع لتعبئة مجموعات سياسية أو تضطلع بدور شبكات الدعم المالي بل وحتى بدور بنوك حقيقية إن لم تكن البنوك نفسها هي التي تستعمل لفائدة بعض العصبيات([37]).وتلك أيضا هي حال التحالفات القائمة على المصاهرات.وبالتأكيد فإن وزن القيم الاقتصادية الجديدة التي تنعكس في التسويق المفرط للخدمات الزوجية،يؤدي إلى ارتفاع للمكانة الاجتماعية لكن يبقى هذا الأسلوب في تغيير مستوى المكانة الاجتماعية نسبيا: فقد ظلت الأساليب "التقليدية" في الكثير من الحالات موجودة. فزيجات النساء من خارج الطبقة الاجتماعية (mariages hypogamiques féministes) التي تقبل أحيانا لأسباب اقتصادية تظل غير محببة وتبقى القطيعة بين القبائل وخصوصا بين الطبقات الاجتماعية ([38]) في الزواج السلالي (mariages endogamiques) قائمة. ولهذا الأمر أسباب عدة إذ يجب أن نضع في الحسبان وجود نسق من القيم بقدر رسوخه الشديد فإنه معترف به ومقنن في الإسلام الذي خلق مؤسسة ولي الأمر للسهر على احترام تلك القاعدة التي تحرم زواج النساء من خارج الطبقة الاجتماعية. يجب الاعتراف كذلك بفعالية استراتيجيات الزواج هذه التي تسمح بالفعل بالتقاط السلطة والاحتفاظ بها: وقد ذكرت مثالا على ذلك في سياق حضري وعصري([39]).وفي الأخير يجب الإشارة إلى العلاقة الوطيدة بين هذه الممارسات وبين الحفاظ على العصبيات التي تنشأ وتبقى في جزء منها من أجل تسيير استراتيجيات الزواج داخل المجموعات.فمنذ عشر سنوات كانت هناك قبيلة زاوية مهمة دعت "جماعتها" لعقد اجتماع لتدارس الوضع الجديد الذي خلقه العدد المتنامي لزيجات نسائها من خارج القبيلة.وقد اتخذت "الجماعة" إجراءات لإصلاح الوضع ومن ثم السهر على المحافظة على مكانة القبيلة في المجتمع العام ([40]).
وعليه فإن التراتبية الطبقية لا تزال موجودة في مجتمع البيظان الحالي محدثة بعض الاختراقات التي تظهر بشكل أوضح باعتبارها اختراقات للزواج السلالي [الزواج من داخل الطبقة الاجتماعية] ومشيرة إلى بعض التفاوت في المجتمع فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية (المصالح المالية أو الوظيفية.. إلخ) أو السياسية في الوقت نفسه الذي تستمر فيه الفروق الثقافية والسلوكية الحاملة للهوية الاجتماعية([41]).
ونتيجة لـ"اختفاء" العبودية والمكانة الجديدة التي يحتلها "الحراطين" الناتجة فقط عن أهميتهم الديمغرافية فإن مكانة هذه المجموعة التي كانت في الماضي سيئة وتوجد مهما يكن من أمر خارج الأنظمة الطبقية تميل الآن إلى التقدير وفقا لمعايير جديدة.ذلك أن الحدة الجديدة التي أخذتها مشكلة العبودية والعبيد السابقون تتعلق بهذا البعد الجديد المتعلق بالنظام الطبقي والذي اكتسبته تلك المشكلة ضمن سياق المطالبات السياسية والاقتصادية (العقارية) التي ظهرت على وجه الخصوص منذ عقد من الزمن.
لقد ألغيت العبودية رسميا في الخامس من يوليو سنة 1980م.فلئن لم يكن ينبغي لنا إخفاء استمرار الممارسات الاستعبادية التي ظلت قائمة طوال فترة الاستعمار كلها، إلا أنه يمكننا اعتبار أن ذلك الإلغاء الرسمي كان ذا طابع أخلاقي ورمزي أكثر منه موجها لحل مشكلة اجتماعية ذات نطاق واسع.فقد أدى التحضر ونشأة سوق للعمل الذين عرفا اتساعا جديدا بسبب الجفاف في السبعينيات من القرن الماضي إلى الهجرة المكثفة للعبيد الرعاة والمزارعين والمشتغلين بالواحات والذين كانوا أول المتأثرين بتدهور الظروف الاقتصادية المحلية.ويبدو لي أنه من الأهمية بمكان مقاربة ذلك القرار سنة 1979م القاضي بتأسيس حركة سياسية نشأت من داخل أوساط "الحراطين" وهي حركة "الحر".وبمحو وصمة عار العبودية رسميا التي كانت تحدد وضع هذه الطبقة الاجتماعية تم الاعتراف بحق "الحراطين" في ترتيب طبقي يحدد بطريقة مختلفة مكانتهم في المجتمع العام ([42]).
وبالفعل ستدور حلقات مسلسل الكفاح من أجل حصولهم على إعادة ترتيب لمكانتهم الاجتماعية - وهو الكفاح لا يزال مشوها على الصعيد السياسي- بشكل أكبر على الصعيد الاقتصادي([43]).وقد كشفت نتائج الجفاف بشكل عنيف عن أهمية المشكلة العقارية ومن أهم تلك النتائج: توطين العديد من المنمين "البيظان" الذين أظهروا اهتماما جديدا بالزراعة أو الذين يحاولون توطيد استغلالهم للمزارعين "الحراطين"، وتقلص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة  الذي تمت معالجته باستصلاح أراض جديدة أو بإنشاء سدود جديدة، دون أن نتحدث عن نمو ديمغرافي لم تستطع الهجرة نحو المدن امتصاصه بشكل تام.ولا يمكن إهمال البعد الاقتصادي للمشكلة،في سياق عرف تراجع العائدات التقليدية وترقية الزراعة، لكنه لا تفسر لوحده حدة الصراعات العقارية بين "البيظان" و"الحراطين" منذ بداية عقد السبعينيات والمنحى العنيف الذي أخذته في بعض الأحيان([44]).ويتعلق الأمر بالنسبة لـ "البيظان" بالحفاظ على مصدر للدخل أو باستعادته أكثر مما يتعلق بالإبقاء على مكانتهم الاجتماعية وعلى مكانة "الحراطين" من خلال الحقوق المشتركة في الأرض التي يمكن استبدالها من جهة أخرى بتملك يحرم الطرف الآخر منها.  
ويبدو أن القرار رقم 83127 الصادر بتاريخ 5 يونيو 1983م المتعلق بإعادة تنظيم المجال الحضري والعقاري،والمرسوم رقم 84009 الصادر بتاريخ 19 يناير 1984م المتعلق بتطبيق ذلك القرار([45]) أنها تقدم بداية لحل المشكلة.فقد ألغيت الحقوق المشتركة وتم إقرار إمكانية الحصول على ملكية فردية للأرض لمن يزرعونها.وبالاعتراف الرسمي بقدرة المزارعين - "الحراطين" في معظمهم - على الحصول على ملكية خاصة للأرض تتدخل الدولة إذن من جديد للمساعدة في نحت مكانة جديدة لهؤلاء "الحراطين" في المجتمع العام.ولئن كانت النصوص القانونية بعيدة جدا من أن تحل المشكلات المحلية إلا أنها مع ذلك تساهم على الأقل في إعادة تعيين مكانة العبيد السابقين وتحدد أهمية الدور الذي يراد لهم في المستقبل أن يضطلعوا به تدريجيا في موريتانيا الغد.
[الخاتمة]
لقد حاولت أن أبين في هذا التحليل المختصر لتطور التراتبيات الطبقية منذ الفترة التي سبقت دخول الاستعمار وحتى الآن استمرار هذه الرؤية التي حافظت عليها الإدارة الاستعمارية ولا يزال معمولا بها حتى أيامنا هذه. ولا يوجد تناقض بين التحول الذي تعرفه مكانة "الحراطين" في المجتمع "البيظاني" الحديث الذي نشاهده في الوقت الراهن،وبين بقاء ذلك النظام الاجتماعي الهرمي :فلم يقع دمج "الحراطين" في هذا المجتمع الحديث إلا بمحو سمات المكانة الاجتماعية القديمة (إلغاء الرق)والحصول على سمات مكانة جديدة (الوصول إلى الملكية العقارية).ومع ذلك ولكي نختتم حديثنا نضيف إلى ما ذكرناه أننا قمنا من أجل تركيز استدلالاتنا بإهمال عوامل أخرى من شأنها أن تقلل من مجال انطباقها مثل دور الإسلام الذي لا يزال حتى الآن في إطار الطرق الصوفية،منصهرا في ذلك القالب التراتبي لكنه قد يكون حاملا لقيم أخرى . يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار المشكلات الاقتصادية الخطيرة، والمشكلات العرقية والسياسية التي يعرفها البلد في الوقت الحالي والتي قد تؤدي بالفعل إلى حدوث بعض التحولات المباغتة.لكن أليس حل تلك المشكلات هو أيضا رهان ذلك التحول للتراتبية الاجتماعية للمكانات الذي يؤدي دون قلب للنظام الاجتماعي بشكل جذري إلى تعزيز هوية الناطقين باللغة العربية والهوية البيظانية في المجتمع الموريتاني؟.



[1]  بيير بونت،"النظام الطبقي" التقليدي، تطور تراتبية المكانات الاجتماعية في  المجتمع البيظاني المعاصر،مجلة العالم الإسلامي والبحر الأبيض المتوسط، العدد رقم 54،1989 ص ص 118-129، ترجمة البكاي ولد عبد المالك – مخطوط.
[2]BONTE P. ,1987a, « donneurs de femmes ou preneurs d'hommes. Les Awlad Qaylan, tribu de l’Adrar mauritanien » , L’homme, XXVII,102 :54-79.
[3]   تتعلق الملاحظات التالية أساسا بالتحول الذي عرفه المجتمع البيظاني "الأميري" [المجتمع البيظاني في ظل الإمارات الحسانية].ومع أن التغيرات التي حصلت طوال القرن الماضي [التاسع عشر] قد ساهمت في تغيير الأوضاع المحلية في بعض الجهات إلا أن الفوارق لا تزال قائمة بحسب تعلق تلك الأوضاع المحلية بالإطار القديم للإمارات والمجتمعات القبلية الطبقية في الشمال أو بالمجتمعات القبلية ذات الزعامات القوية في شرق البلاد.
[4]  باستثناء إمارة تگانت التي هي آخر الإمارات من حيث النشأة،وقد تشكلت في إطار إحدى القبائل المحاربة المنحدرة من أصول بربرية لمتونية.
[5]  هكذا كان القرب أو البعد من السلالة الأميرية من ناحية الأصل أو النسب يحدد لدى "حسان" مراتب القبائل ذات الأصل المشترك ومكاناتها (أي القبائل المنحدرة من أصول "حسانية"). أما عند الزوايا  فقد كان الشرفاء يحتلون مكانة مرموقة وكذلك الشأن بالنسبة إلى "زوايا الشمس" أو القبائل التي تدور في فلك مشايخ الطرق الصوفية القوية.أما عند "آزناگه" أخيرا فإن درجة الاستغلال والاستقلال السياسي [استغلالهم من طرف سادتهم واستقلالهم السياسي عنهم] أي قدرتهم على مقاومة الضغوط من جانب بني حسان ،هي التي تحدد التراتبية الاجتماعية لمكانتهم.
[6]BONTE P., 1987a, « donneurs de femmes ou preneurs d'hommes. Les Awlad Qaylan, tribu de l’Adrar mauritanien », L’homme, XXVII, 102 :54-79.
[7]BONTE P., 1985, « Esquisses d’histoire foncière de l’émirat de l’Adrar » in Baduel P.R. (éd.), Etats, territoires et terroirs au Maghreb, Paris, Editions du CNRS : 323-346.
[8]CHEIKH Abd el Wedoud ould, 1985, Nomadisme, Islam et pouvoir politique dans la société maure précoloniale. Essais sur quelques aspects du tribalisme thèse Doctorat, université Paris V
[9]  تبدو هذه الحركة التي نشأت داخل بعض القبائل البربرية في ضفة نهر السنغال في نهاية القرن السابع عشر أيضا أولى الحركات الجهادية التي تعاقبت بعد ذلك في إفريقيا الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وخاصة في صفوف المجتمعات الناطقة باللغة البلارية [الفلان] وفي المقام الأول في مجتمعات الفلان بفوتا تورو وهو ما يؤكد فعلا كونها استمرارا لحرب "شرببه".
[10]  نذكر منها على سبيل المثال التفكير السياسي عند الشيخ سيديا وهو أحد زعماء المشايخ الرئيسيين في القرن التاسع عشر والذي كان له من جهة أخرى نفوذ سياسي حقيقي في منطقة "الگبلة" (الجنوب الغربي لموريتانيا) انظر في هذا الخصوص :
CHEIKH Abd el Wedoud ould, (à paraitre) «La tribu comme volonté et comme représentation. Le facteur religieux dans l’organisation d’une tribu maure : Les Awlad  Abyayri » in Bonte P. et al(eds), Al-ensab. La quête des origines. Anthropologie historique de la société tribale arabe, Paris, Cambridge  University  Press et Maison des sciences de l’Homme.
[11]  "الحرمة" هي لفظ يحيل إلى الشرف وأيضا إلى "اللحمة" وهو لفظ مهم يعكس دون شك لفظ اللحم ويمكن أن يحيل إلى لفظ القرابة والحماية العائلية لمن هم في حوزتنا.انظر بهذا الخصوص:
HAMÈS C.(à paraitre), «De la chefferie tribale à la dynamique étatique. Généalogie et pouvoir des origines. Anthropologie historique de la société tribale arabe», Paris, Cambridge  University  Press et Maison des sciences de l’Homme.

[12]  استعمال طبقة "الحراطين" المحاربين يوجد في كل الإمارات حيث يشكلون قوة إسناد عسكري.لكن هذه الجماعات في القبائل القريبة من السلالة الأميرية رغم امتلاكها لمكانة عالية في السلم الاجتماعي إلا أنها ليست مندمجة في الأصل الاجتماعي من جهة النسب وتشكل جماعات لا تتزوج إلا من جنسها (groupes endogames) ولا يمكنها أن تتزوج نساء بني حسان.أما في القبائل ذات المرتبة الأقل فإنهم يكتسبون مكانة حسان وسرعان ما يتلاشى أصلهم الاجتماعي.
[13]BONTE P., 1987a, « donneurs de femmes ou preneurs d'hommes. Les Awlad Qaylan, tribu de l’Adrar mauritanien », L’homme, XXVII,102 :54-79.
[14]BONTE P., « Krieger  und Reuige . Die Towba und die politische Entwicklung der Maurischen Emirate» in E.conte (Hg.), Macht und Tradition in Westafrika .Franzosische Anthropologie und afrikanische Geschichte,Francfort/Main,Campus:175-202.
[15]   المثال على ذلك هو أن إمارة تگانت قد تكونت حول قبيلة ذات أصل بربري كانت خاضعة ردحا من الزمن لـ "حسان" (أولاد أمبارك). وبالمثل كانت [إمارة] مشظوف خاضعة لـ "حسان" في بادئ الأمر ثم خضعت بعد ذلك لإمارة تگانت إلا أنهم استطاعوا خلق منطقة نفوذ قوية في الحوض .
[16]  يعد الطابع الطائفي والقبلي للملكية العقارية في جنوب البلاد بأسره حيث تتم ممارسة الزراعة المطرية والتي يتم تطويرها في بعض الحالات عن طريق إقامة السدود بطرق تقليدية، بمثابة الأداة المباشرة لتلك السيطرة.إلا أن الوضع أكثر تعقيدا في الحالة الأخرى وهي زراعة النخيل في الواحات التي يحكمها نظام معين للملكية الخاصة. في هذه الحالة الأخيرة فإن تطبيق الشريعة الإسلامية الذي هو بيد الزوايا الذين هم الملاك الرئيسيون لواحات النخيل والذين يستعملون على نطاق واسع يدا عاملة من العبيد يقود بصفة غير مباشرة إلى السيطرة على تلك الملكية من طرف "البيظان".. انظر بهذا الخصوص :
 BONTE P., 1985, « Esquisses d’histoire foncière de l’émirat de l’Adrar » in Baduel P.R. (éd.), Etats, territoires et terroirs au Maghreb, Paris, Editions du CNRS : 323-346
ومن جهة أخرى ظل العتق  في واحات النخيل هو الاستثناء حتى وصول المستعمر.
[17]  المُقطَع (vassal) وجمعه المُقطَعون (Vassaux) هو شخص يقتطع له السيد الإقطاعي أرضا ليزرعها لقاء تعهده بتقديم الخدمات له (المترجم).
[18]  تقرير مقدم للجنة الوزارية المشتركة عن شمال غرب إفريقيا سنة 1901م. آرشيف فرنسا وما وراء البحار،المجلد 4، الملف رقم 1: Archives F.O.M., IV, dossier 1                                                                                
[19]  والتي هي علاوة على ذلك – وخصوصا ما يوجد منها في منطقة "الگبلة" الأقرب جغرافيا إلى المؤسسات الفرنسية بالسنغال- ذات أصول بربرية في جزء منها وهي مسألة لا تخلو من أهمية في نظر كبولاني وهي منحدرة من أصل جزائري حيث كانت  نشأة "الأسطورة البربرية" وحيث يوجد الصراع بين هؤلاء السكان المتمدنون والمكافحون وبين العرب الرحل الذين يمارسون النهب وهو الأمر الذي كانت إرهاصاته حاضرة هنا في هذه البلاد منذ نهاية القرن التاسع عشر.
[20]  في مطلع سنة 1908م كتب المسؤول المكلف بالشؤون الموريتانية الذي خلف كبولاني ف.بونتي (W.Ponty) قائلا : "يجب (...) أن تكون نتيجة جهودنا هي التحرير النهائي للطبقات العاملة التي يتعين علينا في نهاية الأمر الاعتماد عليها ضد الطبقة العاطلة عن العمل التي تمسك بزمام السلطة والتي تسبب فشلا لسياستنا". تقرير الفصل الرابع من سنة 1907م عن الوضع السياسي في موريتانيا، فاتح إبريل سنة 1908م.آرشيف فرنسا وما وراء البحار،موريتانيا،المجلد 4، الملف رقم 2 مكرر:Archives F.O.M., IV, dossier 1                                                                                 
[21]  "لقد بدا لنا مناسبا في وقت ما من الأوقات الاعتماد على المشايخ ضد المحاربين.أما الآن وقد دخل المحاربون في سلطتنا وخضعوا لها في الوقت الذي أظهر فيه احتلال آدرار قوتنا للمترددين فيمكننا أن نتساءل إن لم يكن من حسن التدبير(...) لكي نربط أعواننا من "البيضان" الذين نحتاج إليهم بنا عن طريق المصلحة، الاعتماد على المحاربين وحمل المشايخ على دفع الأتاوات لهم". رسالة 30 مارس سنة 1909م من العقيد غورو إلى قائد كتيبة شنقيط كلوديل (Claudel). آرشيف فنسين، ملف إفريقيا الغربية الفرنسية، موريتانيا، الملف ر قم 1: 
Archives Vincennes, dossier A.O.F.Mauritanie 1.
[22]  آرشيف فرنسا وما وراء البحار ، موريتانيا،المجلد  5،الملف رقم 1د :
Archives F.O.M.,Mauritanie V, 1D.

[23]  ذكر ذلك في جوابه على جماعة من قبيلة السماسيد جاءت لإعلان خضوعها في آدرار: "العقيد لا ينوي التعرض للعبيد" (آرشيف فنسين،ملف إفريقيا الغربية الفرنسية،موريتانيا1 ، سرية آدرار، يناير 1909م)، وذكره أيضا في حديثه حول القبائل حيث قال : "إن العدل وضرورة أن يترك للمحاربين وسائل البقاء يرغماننا على المحافظة على "الحرمة"" المرجع نفسه، يونيو 1909م.
[24]  سيبقى هذان النموذجان من تمثل المجتمع "البيظاني" جنبا إلى جنب حتى وإن كانت الضرورات السياسية تبرر تفضيل النموذج الثاني على الأول. وقد نجم عن ذلك بعض التناقضات في السياسات الإدارية الاستعمارية تارة بحسب المسؤولين الإداريين الذين يباشرون الحكم وتارة بحسب الظروف.وتظهر هذه التناقضات بشكل خاص فيما يتعلق بالأحداث التي أدت إلى انشقاق أمير آدرار سيد أحمد ولد احمد عيدة سنة 1932م. انظر بهذا الخصوص :
BONTE P., 1984, « L’émirat de l’Adrar  après la conquête coloniale et la dissidence de l’émir Sid’Ahmed, 1909-1932 », Journal des Africanistes, 54-2 : 5-30. 
[25]  يتعلق الأمر بوثيقة قديمة نسبيا (تعود إلى سنة 1918م) لكنها تتقاطع مع بعض الوقائع الأخرى التي يعود تاريخها إلى الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية.وقد كانت التدخلات الإدارية بعد سنة 1945م أكثر حذرا و"حيادا" حول هذا الموضوع .وقد عدنا في هذا الموضوع إلى مقالة ظريفة كتبها مواطن من داوومي لاجئ سياسي في موريتانيا منذ سنة 1930م وقد وجه في سنة 1964م مرافعة ضد العبودية وضد الدعم الذي يحظى به ذلك النظام الاجتماعي من طرف الإدارة الاستعمارية .
[26]  الآرشيف الوطني الموريتاني، نواكشوط الملف أ 33-1، الملف الفرعي آدرار 1921م:
Archives Nationales Nouakchott, Dossier E 33-1.Sous-dossier Adrar 1921.
[27]  وهي حقوق تم تسجيلها فيما بعد لدى الإدارة الاستعمارية التي تفرض احترامها .انظر بهذا الخصوص :
Villasante Carvello, M., 1989, Collectivités tribales, restructuration des stratégies sociales de reproduction et de pouvoir. Quelques aspects  du système foncier dans la région de l’Assaba, Mémoire n° 47, Genève, Institut Universitaire d’Etudes du développement.
[28]  وهكذا كانت عقود إيجار الأراضي تقرر امتلاك "الحرطاني" لنصف الواحات التي أصبحت منتجة والتي لم تعد تحتاج إلى الري بعد انقضاء فترة الغرس والري الأولي علما بأن الواحات نادرا ما تحتاج إلى الري بعد انقضاء تلك الفترة: إلا أن هذا الأخير [الحرطاني] الذي غالبا ما يضيع بالفعل في متاهات الحيل الفقهية في الشريعة الإسلامية يجد نفسه وقد هضمت حقوقه بعد انتهاء عمله.
[29]  على خلاف "الحرمة" فإن "الغفر" هي عبارة عن مكوس جماعية توافق بعض مجموعات "آزناگه" أو "الزوايا"  تقريبا على دفعها لـ "حسان" في مقابل توفير الحماية لها.
[30]  هكذا تم فتح سجلات تسجيل الإتاوات منذ الاحتلال ويستمر تحيينها حتى يتم دفعها.هذه الملفات التي استطعنا الوقوف عليها في آدرار (ضمن آرشيف آدرار) هي مصدر ثمين لدراسة السنظام السياسي.
[31]  وقد فند غورو ذلك الدليل أمام السماسيد الذين طالبوه بناء عليه بإلغاء المكوس التي كانوا يؤدونها.فقد ألغى كلوديل (Claudel) في يوليو سنة 1910م حكما شرعيا حكم به قاضي شنقيط يحرم المكوس وفقا للشريعة الإسلامية وأعلن أن الأمر يتعلق بمسألة تخص السلطات الاستعمارية وحدها.
[32]  ومن هنا أدت المطالبات حول الإتاوات إلى زيادة التوترات بين الأمير سيد أحمد والإدارة الاستعمارية الأمر الذي أدي في نهاية الأمر إلى انشقاقه .انظر بهذا الخصوص :
BONTE P., 1984, « L’émirat de l’Adrar  après la conquête coloniale et la dissidence de l’émir Sid’Ahmed,1909-1932 », Journal des Africanistes, 54-2 : 5-30. 
[33]  لنذكر مجددا رسالة توجيهات من غادان إلى قائدة الدائرة العسكرية بآدرار بتاريخ الثالث من مارس سنة 1923: "تعد مسألة "الحرمة"مسألة حيوية لأمن البلد. وقد أمكن تحرير "الحرمة" في تگانت بسبب أن المحاربين باشروا أعمال الزراعة.أما في آدرار فإن المحاربين فيه أكثر فقرا من المحاربين في تگانت علاوة على أنهم غير مؤهلين لممارسة أي عمل ويجب علينا أن نكون حريصين على ألا تقطع الصلات التي تربطهم بالبلد بشكل طائش أوتعسفي . وعليه يجب حمايتهم ضد عدم تبصرهم وضد العداوة العمياء من جانب المشايخ.
فلا ينبغي أن تكون النزاعات الناشئة بسبب "الحرمة" خاضعة لنظر القضاة.فدور هؤلاء هو أخذ الشهادات عن طريق القسم والحكم على قيمة شهادة مكتوبة، يعني أن دورهم هو دور المساعد في التوجيه الذي تستنير به السلطات الإدارية لكن هذه الأخيرة هي التي تمتلك حق اتخاذ القرار النهائي. فلا ينبغي تشجيع تحرير "الحرمة" عندما يكون المحارب فقيرا.ففي الظروف الحالية فإن فائدة الحفاظ على العلاقة التي تربطنا بالمحارب هي بصفة عامة فائدة أولى من تحرير "آزناكه" الذين هم أمهر وأكثر أهلية للاستفادة من الأمن الذي وفرناه للإثراء رغم الأعباء الثقيلة.
ومع ذلك فإن كانت هناك مصلحة في السماح بتحرير "الحرمة" فيجب أن يتم ذلك قدر الإمكان بالواحات أو بالماشية أكثر مما يتم عن طريق النقد.وينبغي ألا تترددوا في حالة البيع لشيخ من المشايخ إن كان هذا الأخير قد استغل مأزقا عابرا لأحد المحاربين في إجباره على دفع ثمن القيمة العادية أو السماح للمحارب في استعادة حقوقه مقابل تعويض المشتري منه " الآرشيف الوطني لموريتانيا، نواكشوط، الملف  أ 33-1،الملف الفرعي آدرار 1923.
[34]  بعد وفاة أمير آدرار سيد أحمد تساءلت الإدارة الاستعمارية عن الجدوى من استمرار المؤسسة الأميرية  لا في آدرار وحده بل في عموم موريتانيا.وقد تم تعيين خليفة لسيدي احمد سنة 1934م إلا أن سلطة الأمراء أصبحت منذ ذلك الحين محدودة بشكل دقيق وذات طبيعة رمزية،وأصبحت في بعض الأحيان أقل شأنا بكثير من سلطة "شيخ البلدة" الذي تعينه الإدارة: إلا أن استمرار لقب الأمير و الإمارة هو صون للمكانة الخاصة لحسان.
[35] CHEIKH Abd el Wedoud ould, et BONTE P.,1983, «Production pastorale et production marcande dans la société maure » Contemporary Nomadic and Pastorale Peoples : Africa and Latin America, Studies in Third World Societies,17,Williamsbourg,USA :31-56.
[36]  كان حرمة ولد ببانه أول نائب موريتاني وقد انتخب سنة 1946م بعد هزيمته سنة 1951م أصبح أحد أنصار  الاتجاهات المغربية المطالبة بضم موريتانيا إلى المغرب.
[37]CHEIKH Abd el Wedoud ould, 1987, « La tribu dans tous ses Etas », Al Wasit ,Nouakchott,1 :89-98.
[38]  وتشهد على ذلك دراسة تحت الطبع خصصناها لاستراتيجيات الزواج في إحدى قبائل آدرار (أولا عمّني) وهي القبيلة التي توجد بداخلها السلالة الأميرية.
[39]BONTE P., 1987b, « Sens et permanence du mariage arabe dans la société maure » in Parkin D.and D. Nyaamwaya (eds), Transformations of African marriage, Manchester Unversity  Press for the the international African Institute :55-74 .
ولا تخص هذه الملاحظة موريتانيا وحدها بل يلاحظ وجودها في سياقات حضرية أخرى في بعض مدن الشرق الأوسط  حيث لا يزال الزواج "العربي" مثلا بين أبناء العمومة المباشرة معمولا به بشكل لا يخلو من دلالة.
[40]  يمكن لكل ملاحظ مطلع شيئا ما على المجتمع البيظاني أن يميز "الزاوي" من "المحارب" من سلوكه، ومن طريقة حديثه، ومن طريقة لبس الرداء أو الثوب إلخ.
[41]  هذا علاوة على أن الحركة السياسية لـ "الحراطين" منذ تأسيسها هي موضوع لرهان لصراع بين الأغلبية البيظانية التي تمسك بزمام السلطة وبين الأقليات الإفريقية المنحدرة من ضفة نهر السنغال : هل هم "بيظان" سود أم هم سود خضعوا للاستعباد؟ ومن يتضامن معهم ؟ ونعرف المرحلة المأساوية التي أخذها ذلك الصراع مؤخرا (ربيع 1989).
[42]  كما تم تعزيز مكانة "الحراطين" قليلا في أجهزة الدولة وفي الجيش الذي يمسك بزمام السلطة.ولكن لأسباب عديدة ليس أقلها ضعف معدلات التمدرس في هذه الجماعات التي لا يزال تمثيلها ضعيفا جدا في المراكز القيادية.
[43]  وعلى الأخص في منطقة السدود الكبرى الموجودة في سهول تگانت وكذلك في منطقة آفطوط .وقد أخذت تلك النزاعات أطوارا متباينة عنيفة تارة وتارة تصل إلى القضاء، وتارة أخرى تأخذ شكل رفض الإتاوات ومصادرة الأراضي من طرف البيظان أو الامتناع عن الزراعة من طرف "الحراطين".وليس في مقدورنا ضمن هذا الإطار الضيق للدراسة تقديم تحليل مفصل عن الموضوع.
[44]  حصيلة عمل طويل وشاق قامت به لجنة مكلفة بالإصلاح العقاري اجتمعت منذ سنوات عدة.
[45]  وهي حالة توجد بالفعل في العديد من الأماكن في الفترة السابقة لكن لا يزال في الإمكان العدول عنها إن لم يكن بشكل فعلي فعلى الأقل في شكل إعادة تأكيد رمزي لأولية الحقوق المتعلقة بالمكانة الاجتماعية.