استراتيجية الهوية من منظور إنسانوي
د. البكاي ولد عبد المالك- منشور ضمن كتاب - العيش سويا،منشورات مجلة أوراق فلسفية،القاهرة - تونس 2008
تمهيد:
هل يمكن تجاوز حالة الانفصام التي تعانى منها الذات العربية المتأرجحة بين الثراء القديم والفراغ المأساوي الذي يعكسه حضورها في العالم في الوقت الراهن بإعادة التفكير في مفهوم الهوية ؟ هل هناك ضرورة لتحديد موقعنا في تيار العولمة لكي نتفادى في الوقت ذاته "الوجود الأحادي" و "تأحيد الوجود" ؟! بتعبير آخر من نحن ؟ وكيف نكون جزءا من العالم ؟
تلك هي الإشكالية التي سنحاول مناقشتها في البحث الذي بين أيدينا والذي خصصناه لقراءة جزء من أعمال أحد أعلام الفكر العربي المعاصر هو المفكر التونسي،وأستاذ كرسي الفلسفة للعالم العربي في المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم أستاذنا:الأستاذ الدكتور فتحي التريكي.
I ـ الهوية: الوجود والماهية:
الهوية (Identité) بالفرنسية و(Identitas) باللاتينية هي كلمة مشتقة من أصل لاتيني هو (Idem) ويطلق بمعنيين:الأول هو "الشيء نفسه"،والثاني "الشيء الذي لا يختلف في شيء عن شيء آخر"( ).ومن هذا الأصل أيضا اشتقت كلمة (Identicus) وتعني "الشبيه" و "النظير" والشيء نفسه وعكسه "المغاير" و"المختلف".
أما في لغتنا العربية فإن الهُوية بضم الهاء تشير، بالإضافة إلى مفهوم الحد،إلى ضمير الغائب "هو" ،والذي يقتضي في نظرنا الخروج من دائرة الذات،ومن عالم الذاتية الضيقة إلى عالم الآخر.
ومن هنا فإن هذه الكلمة تحيل في اشتقاقها اللغوي إلى "الغيرية" باعتبارها شرطا ضروريا من شروط إمكان تصورها ووجودها ( ).
ذلك هو ما جعل فيلسوفنا ،الذي انتهى إلى القول ب << عدم إمكانية الفصل بن الهوية والغيرية عل مستوى التحديد اللغوي>>( ) ،إلى البحث عن أرضية فلسفية للمفهوم تخلصه من التفسيرات المعكوسة،والدلالات السلبية المثقلة بالهاجس الأيديولوجي فنراه يلجأ تارة إلى أفلاطون وتارة إلى الفارابي وابن خلدون لتأصيل ذلك المفهوم << ألم يصطدم أفلاطون،المدافع عن الواحدية،بصعوبة كبرى وهي مكانة الآخر؟ ألم يجد نفسه مضطرا إلى قتل أبيه برمنيدس حتى يكون في الإمكان التفكير في اللاوجود،في الآخر المختلف والمغاير لكي تقدم الفلسفة؟ >>( ).
وبناءا على ذلك فإن الهوية من الناحية اللغوية والاصطلاحية تتجذر في حقل التنوع والاختلاف،وتقتضى نوعا من الانتقال السلس والتواصل بين قطب المغايرة وقطب المماثلة.
لهذا حاول أرسطو،من خلال نقده المشهور لنظرية المثل الأفلاطونية،النقد الذي عرف في تاريخ الفلسفة ب "برهان الإنسان الثالث" (démonstration du troisième homme)،تجاوز الهوة أو الاختلاف الأنطولوجي الذي أقامته الميتافيزيقا الأفلاطونية بين الوجود والماهية،بين العالم الواقعي والماهيات المجردة،المفارقة بافتراض وجود "إنسان ثالث" يسمح بوصل سلسلة الوجود الواحدة والمتدرجة،ويصلح بالتالي لأن يكون معيارا للحكم على مقدار الشبه بين مستويات الوجود فأضفى بذلك نوعا من المعقولية على الوجود ،وأعاد إليه الاعتبار الذي سلبته إياه الواحدية البرمنيدية والمثالية المطلقة الأفلاطونية.فلم يكن "قتل" برمنيدس على يد أفلاطون،لإضفاء المعقولية على اللاوجود ولتبرير التفكير في الآخر،أقل بشاعة من "قتل" أفلاطون على يد أرسطو لانتشال الهوية من سكونية الجوهر القائمة على الوحدة والثبات،وإعادة الاعتبار للوجود الواقعي المتعدد الموّار بالحركة والتغير.عندئذ يصبح "التنوع" و"الانفتاح" و "التعدد" و"الطابع الديناميكي"،لكن أيضا التعادل والتجانس والتكافؤ والحرية والمساواة أمام القانون (إيزونوميا) هي المحددات الفعلية للمفهوم "الجديد" للهوية عند المفكر الإنسانوي.هذا ما يتجلى من خلال استعراضه ونقده للأبعاد المختلفة لمفهوم الهوية التي حدها فيما يلي:
1- البعد المنطقي- الميتافيزيقي: تتحدد فيه الهوية باعتبارها ذاتية ومساواة.ويمكن تعريف الهوية في هذا المستوى بأنها << الوحدة المطلقة للوجود مع ذاته. وهي بهذا المعنى تعبر عن الاستحالة المنطقية والميتافيزيقية للفصل بين الوجود والماهية >>( ).
والحقيقة أن الهوية بهذا المعنى هي خاصية من خواص الكينونة المتعالية أي الوجود بما هو وجود ، حيث توجد تلك الكلية الأنطولوجية أو الوحدة التي لا انفصام لها بين الوجود والماهية على نحو ما بينه ديكارت في كتاب "التأملات".وهي لهذا السب إنكار للاختلاف والتعدد، ذلك أن مقولة برمنيدس "اللاوجود ليس موجودا" تعبر عن حقيقة جوهرية مفادها <<أن لا فكر إلا فكر الهوية،وأن الاختلاف الأنطولوجي لا يمكن تصوره،وأن الغيرية مستحيلة بالضرورة ،وأن الوجود في نهاية الأمر خال من كل مشاركة ولو جزئية للاوجود وللاختلاف والغيرية حتى لا يتعرض للفناء >>( ).
لهذا كان هذا البعد الأول للهوية ضيقا وقاصرا نظرا لطبيعته الذاتية،ونزعته الأحادية،وطابعه الاستبعادي ، فهو في الواقع – وكما أشار إلى ذلك فيلسوفنا- يختزل الهوية في مجرد وحدة أصلية ووظيفية تظهر من خلال كل "واحد" باعتباره انتماءا مشتركا إلى ذات كلية لا تمثل فيها الغيرية الاختلاف والتنوع سوى أعراض ظاهرة لشيء واحد بعينه هو الجوهر أو الماهية.
أما الحيز الذي يجد فيه هذا البعد الأول من أبعاد الهوية انطباقه ومجال عمله فهو التاريخ الذي يعطي لتلك الذات الواحدة بالجوهر المتكثرة بالعرض دلالة أنطولوجية مميزة.
2- البعد الأنطولوجي- التاريخي:تتحدد فيه الهوية باعتبارها تجانسا وقدرة على البحث عن غد أفضل.وفي هذا البعد يتقهقر مفهوم الهوية باعتبارها ذاتية مطلقة،وتأخذ صبغة أنطولوجية بما أنها تستند إلى فكرة الأصل أو المنشأ، والتجانس، ووحدة أنماط العيش.
بيد أن الهوية في هذا المستوى- الذي يجمع بين الإيجاب والسلب- هي هوية تاريخية تتحدد انطلاقا من وعي الكائن البشري بشمولية الكيان الذي ينتمي إليه ومركزيته لذا فإنها تتميز بثلاث خصائص: الأولى هي - تمدد الموجود بين الحياة والموت،بين الكينونة والاندثار. والخاصية الثانية هي :الحفاظ على الذات ،أما الخاصية الثالثة فهي:قابلية التحول والتبدل:تشد الخاصية الثانية الإنسان إلى ماضيه،وتربطه بحاضره،في حين توجهه الخاصية الثالثة نحو المستقبل.وتجمع الخاصية الثالثة بين مفهومي الاستمرارية أو السير الخطي وبين القطيعة ،بين التفتح والتغير مع الاحتفاظ بالماهية لذا يجب << التركيز على هذا الطابع الديناميكي للهوية التي هي تمدد وحركة يمكنان الموجود من البقاء في وضع يتراوح باستمرار بين الخوف من المستقبل،من الموت ومن العدم،وبين الفرح بإكمال حياته >>( ).
هذا الاضطراب للكينونة، والمراوحة بين الوجود والعدم هو العنصر السلبي الذي يتضمنه هذا البعد من أبعاد الهوية والسبب في ذلك هو اعتماده على فكرة الأصل.
ومن هنا ضرورة الفصل بين الهوية والأصل وهو الالتباس الذي نجده في بعض الأدبيات العربية التي تقترن فيها الهوية بالأصل وبالأصالة تارة ، وبالأصولية تارة أخرى واستحالت الهوية إلى واقع يتعالى على التاريخ وعلى سنن التطور.
و الحقيقة أن الأصل مفهوم استاتيكي في حين أن الهوية مفهوم تاريخي خاضع للصيرورة والتحول،وقابل للنمو والتمدد في العالم والتاريخ.
إن الهوية الفعلية لمجتمع من المجتمعات أو لأمة من الأمم هي محصلة ما ينتجه ذلك المجتمع أو تلك الأمة أو الدولة من إنتاج مادي أو رمزي
،وما يصطنعه لنفسه من علاقات أفقية بين أفراده،وما يؤسسه من تنظيمات اجتماعية أو سياسية،وما يقيمه من علاقات- سواء مع محيطه الطبيعي أو مع الأمم الأخرى- تعزز حضوره في العالم.
هذا ما جعل "التعين" في المكان وفي الزمان شرطين مهمين من شروط المفهوم الجديد للهوية.ونعني بالتعين في المكان أن تصبح الأمة أو الشعب أو الدولة جزءا من العالم. ومعلوم أن الجزء يتحدد بالكل ولا يحدده.أما التعين في الزمان فهو أن يصبح تاريخ ذلك الشعب أو تلك الدولة أو الأمة جزءا من تاريخ العالم ،وأن يطالب بحصته في الإرث الإنساني المشترك الذي تمثله في الوقت الراهن الحضارة الصناعية وهو ما يستدعي بالضرورة حضوره وملء الفراغ الذي قد يسببه انسحابه من الوجود ومغايرته الجذرية << فليست الهوية انكفاءا على الذات ،وإنما هي بالأحرى انفتاح وفهم،وتواصل وعمل>>( ).وهنا يصبح تفاعل الكائن البشري سواءا مع محيطه الطبيعي على الصعيد البيولوجي المحض،أو تواصله مع نظرائه ضمن حيز جغرافي أو ذهني محدد،تواصل تعززه وحدة الأصل ،العنصر المحوري في تحديد مفهوم الهوية في هذا المستوي الثاني.
وبمعزل عن هذا الانفتاح على الآخر وعلى الطبيعة،تصبح الهوية خطيرة من الناحية الاجتماعية والسياسية لأنها تقود إلى الانغلاق وإلى النـزعة الاستبعادية.
إن الهوية الثقافية مطلب مشروع،وهي سر نهضة الجماعات،إلا أنها متى فصلت عن الوعي بالتاريخ الواقعي المسيطر،تصبح على درجة معينة من الخطورة << فالهوية الثقافية – يقول سيرج لا توش- توجد بذاتها(en soi) في الجماعات الحية،أما عندما تصبح مطلبا لذاتها (pour soi ) فإنها تتحول عندئذ إلى علامة دالة على الانطواء على الذات حيال خطر داهم يتهددها ،ويخشى من أن تنحرف في اتجاه الانغلاق بل إلى التضليل والخداع>>( ).
وبما أن الهوية الثقافية عبارة عن منتوج تاريخي معين،مخزون من القيم المشتركة تكوّن بطريقة لا واعية، فإنها تظل عند الجماعة مفتوحة ومتعددة.أما عندما يتم تحويلها إلى أداة فإنها على العكس من ذلك تنغلق على ذاتها وتصبح استبعادية،أحادية لا تعرف التسامح،وشمولية وتواجه خطر الوقوع في الكليانية،عندئذ تجد نفسها غير بعيد عن التطهير العرقي.ذلك هو ما دعا مكسيم رودينسون إلى نعتها بأنها "وباء الجماعات" ( ).
وبناءا على ذلك يشدد البعد الأنطولوجي-التاريخي للهوية على التمدد والانفتاح،وقابلية التغير والتحول ،وهو بذلك يقضي على أسطورة "التولد التلقائي" للثقافة،ويدافع عن التواصل والحوار بين الثقافات عبر التاريخ.
3- البعد النفسي (السيكولوجي) : تتحدد فيه الهوية باعتبارها شخصية،وديناميكية،واستقلال ذاتي.وهنا تكون الهوية ثمرة لنمو الكائن البشري وتطوره طوال حياته .ويسمح هذا المستوى من الهوية للفرد بالبروز باعتباره كيانا مستقلا استقلالا ذاتيا إزاء "الوجود في العالم" الذي يشكله عالم الموضوعات المحيطة به، و "الوجود مع الآخرين" الذين يشاركهم حياته.ولا بد من التأكيد أن الهوية على الصعيد النفسي تقتضى عدم إمكانية الفصل بين الأنا والآخر( ). والهوية بهذا المعنى هي سعي من جانب الفرد للحصول على الاعتراف به،وتثمين وجوده باعتباره وحدة بنيوية قائمة بذاتها،وامتدادا عبر الزمن دون أن يؤثر ذلك النـزوع على التنوع الداخلي وهو ما يؤدي إلى نوع من الازدواجية في وعي الفرد المشتت بين الثراء والاعتزاز بالنفس.لذا كان هذا السعي لانتزاع الاعتراف من الآخر مقرونا بالاعتراف بالآخر، والإقرار بوحدته البنيوية واستقلاله الذاتي <<ولهذا السبب يكون كل استبعاد للآخر،وكل رفض لتحديد موقعنا بالنظر إليه نوعا من انحلال الهوية قد يؤدي إلى انفصام الشخصية >>( ). إن كل انفتاح وتمدد في اتجاه الآخر إنما يقوي الانتظام الذاتي للفرد،ويعزز نسق الهوية لديه.
4- البعد السياسي للهوية : تتحد فيه الهوية باعتبارها في الآن ذاته كلا وتذويتا (subjectivation).والهوية بهذا المعنى هي نتيجة لجدلية صعبة للتضامن بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين وصراعاتهم.<<فإذا كانت الميتافيزيقا قد أخفقت في التحكم في مفهوم الهوية ،وإذا كان التحليل الأنطولوجي التاريخي والنفسي يقود بالضرورة إلى الانفتاح على الآخر؛ فإن عقلانية الهوية- في علاقتها بالحداثة - تنقسم على الصعيد السياسي إلى قسمين هما: الهوية باعتبارها مسارا للاندماج الأقصى للفرد في دواليب السلطة،والهوية بصفتها نوعا من التذويت أي باعتبارها دستورا ذاتيا [للفرد] واهتماما بالذات على حد تعبير مشيل فوكو>>( ).
وقد حدد فيلسوفنا في مكان آخر( ) ،الآليات المتعلقة بما أسماه ب "الاستراتيجية المهيمنة للنسق السياسي" على الفرد فيما يلي:
- حصر رغبات الفرد الفكرية والحياتية في المجالات الاقتصادية والاجتماعي والسياسية في أطر محددة تسهل السيطرة عليه والتحكم فيه، فتتلاشى هويته و << يغيب الزمن الحياتي الهادئ والناعم ليعوض بالزمن الهووي الذي يخرج من الذات ليعود إليها في صيغة علمية وتقنية دقيقة لاستعبادها وإخضاعها >>( ).
- قولبة الرغبات الطبيعية للإنسان وإخضاعها لمتطلبات الربح والسوق من خلال ربطها بطريقة لا واعية بتقلبات الموضة والإشهار.
- تعرية الفرد وحصاره اجتماعيا عن طريق اختزال هويته في سلسلة من الأرقام والبيانات لتسهيل الوصول إليه عند الحاجة لغرض التعبئة أو للرقابة والعقاب.
فسلطة الدولة القومية القائمة على "أسطورة العقل التماثلي" هي نوع من البناء الذي يسلب كل نوع من أنواع الفردنة ويطارده.لذا ناضل فلاسفة الاختلاف والنـزعات الفلسفية الإنسانوية من أجل نوع من الانزياح بين مجال العام والخاص،وحاولوا إعادة ترميم الذات – كما هو الشأن عند هايدغر- وتأسيسها على "الوجود الأصيل"،وهو نوع من الوجود يقوم على الحرية وتحمل الموجود البشري لأعباء وجوده : إزاء "العقل الأدواتي" الذي يقابله عند هايدغر عالم التقنية و"الوجود في العالم" من جهة،وإزاء عقل الجماعة أو عالم السياسة المتمثل في "الوجود مع الآخرين" من جهة ثانية.
هذا الانحصار بين قطبين مختلفين جعل كينونة الإنسان كرة تتقاذفها عوالم غريبة عنها،وأحل الإنية الفردية موضوعيا في حال من الاغتراب وضياع الهوية.
<< وبالفعل فإن الطابع الاستراتيجي للهوية يقوم على مقاومة المماثلة السياسية ،وتأحيد أنماط العيش،وهذا حسب تقديري – يقول فيلسوفنا – هو المعنى الذي يعطيه مشيل فوكو للتذويت ،وعبر عنه جيل دولوز في عبارته المشهورة ب "خط الهيجان" >>( ).
إلا أن فيلسوفنا يحذرنا من الخلط بين "التذويت" (subjectivation) وبين "النـزعة الفردية" ( individualisme) على اعتبار أن التذويت هو مجرد التأكيد على الهوية وفرضها بما هي إبراز لذات فاعلة ،مستقلة وواعية بحدود ممارستها،في مقابل نزعة التأحيد والسستمة التي هي من طبيعة العقل التماثلي،وهو ما عبر عنه مشيل فوكو بقوله <<إن المشكلة ،التي هي في ذات الوقت مشكلة سياسية وأخلاقية واجتماعية وفلسفية التي تطرح نفسها علينا في الوقت الحاضر،لا تكمن في محاولة تحرير الفرد من الدولة ومن مؤسساتها ،بل في تحريرنا نحن من الدولة ومن نمط الفردنة المرتبط بها >>( ).
إن تحديد الهوية على هذا النحو يهدف في المقام الأول إلى استبعاد الدلالات السلبية التي تقتضي من جهة "الابتعاد عن الماضي"( )- إذ يستحيل على الأقل << إيجاد أسس هذه الهوية في التراث الماضي فحسب >>( )- وما ينجم عن ذلك من تلطيف للماهية وانغماس في الوجود الراهن الذي يتجلى من خلال الحضور الديناميكي الفاعل في العالم؛ وضرورة إقرار الاختلاف والغيرية والتحول باعتبارها المحددات الفعلية للمفهوم الجديد للهوية عند المفكر الإنسانوي من جهة أخرى .وهذا يعني القطيعة التامة والجذرية مع المفهوم التقليدي للهوية القائم على الانطواء على الذات ،والنزعة الماضوية،ورفض الآخر.
وفي مقابل قوة المشاكلة هذه عمل تيار ما بعد الحداثة ،وبخاصة مدرسة فرانكفورت،على تأسيس نمط جديد من العقل هو "العقل التواصلي" الذي يسعى إلى تجاوز مركزية الذات إلى حيز مشترك تتضافر فيه الذاتيات وتتساند وبذلك نجد << أن الإطار المحدد لكل أنواع التواصل بين الأنا والغير قد تمثل في "ما بين الذاتيات" وأصبحت هذه الأنا الأحادية ،التصورية المطلقة والمتعالية تصورات عقيمة أجبرت الفلسفة على تجاوز فكر الأنا المتعالي نحو فلسفة التواصل >>( ).
بذلك يكون المفهوم الجديد للهوية عند المفكر الإنسانوي مفهوما يرتكز على الديناميكية والتعدد ،في مقابل سكونية الجوهر وواحديته،وهو علاوة على ذلك تفتق،وانعتاق،وتحرر في مقابل التأحيد والسستمة ،لكنه كذلك انفتاح وتمدد في الزمان والمكان.وبذلك يتحدد وجود الإنسان "كوجود مع" ،كوجود مشارك،ككائن تاريخي.
II – الهوية :الذات والآخر:
هل يمكننا إعادة تحديد مفهوم الهوية في ضوء الغيرية الثقافية ؟
تطرح العلاقة مع الآخر في الوقت الراهن إشكالية عويصة في ظل اشتداد المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب، وتعاظم النـزعات الارتكاسية القائمة على رد الفعل والداعية إلى تعميق الغيرية الثقافية.وانقسم العالم لهذا السبب جغرافيا وذهنيا إلى معسكرين: المركزية العرقية والغيرية الثقافية،وأصبح ردم الهوة بين ذينك العالمين أمرا بعيد المنال وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي الواقع فإن مسار "التدمير الخلاق" الذي يغذي ديناميكية اقتصاد السوق من جهة ،وردود الفعل الهووية من جهة أخرى قد أدى إلى تقهقر الهوية الثقافية على الصعيد الكوني ،ونجم عنه تفكيك لعرى الجماعات وإعادة موضعتها ضمن الفلك الجديد الذي تمثله العولمة،أي ضمن حدود تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا.وكان من نتائج ذلك أن ولد المزيد من الغل والعداء الناجم أيضا عن سوء توزيع الثروة على الصعيد العالمي.
يقول سيرج لاتوش << ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن هذه العودة إلى المركزية العرقية في الجنوب والشرق إنما تتناسب في حقيقة الأمر مع العنف الخفي الذي سببه النموذج الكوني الغربي كما لو كان وراء الحياد الظاهر للسلعة،والصورة الإعلامية،ومهنية القانون، تقبع - في اعتقاد الكثير من الشعوب- مركزية إتنية غايرة،غريبة ،مركزية إتنية كونية هي المركزية العرقية للشمال والغرب ،مدمرة أكثر من كونها نفيا رسميا وجذريا لكل الفوارق الثقافية >>( ).
وقد أدت هذه المركزية الإتنية إلى تحويل العالم الآخر إلى "ورشة فسيحة للمخلفات" على حد تعبير ريمو غويدييري <<إن ذلك التغريب لا يتضمن اختفاء الثقافات الأخرى >> فحسب بل إن <<العالم المعاصر غير الغربي قد أصبح عبارة عن ورشة فسيحة للمخلفات>>. ويضيف غويدييري قائلا إن علم الأجناس عليه أن يرفض اعتبار ورشة المخلفات تلك "موضوعا" لدراسته ،كما يتعين القيام ب << تعديل جذري للصورة المصطنعة شيئا ما – الموروثة عن السلف ابتداءا من اشبنغلر وفيبر وصولا إلى غيلين – التي تكونت عن تأريب العالم في عصر انتصار الميتافيزيقا .فما يطالعنا –يقول غويدييري- ليس التدبير الشامل للعالم في مخططات تقانية صارمة بل هو "ورشة فسيحة للمخلفات" التي بفعل تفاعلها مع التوزيع غير العادل للسلطة والثروة على الصعيد العالمي تفسح المجال لتطور أوضاع هامشية هي بالذات حقيقة "البدائي" في عالمنا >>( ).
إن الانحسار ضمن أنموذج مشحون باشتراطات أيديولوجية هو الذي أدى إلى المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية:إما المركزية العرقية (ethnocentrisme) وإما النـزعة الإتنية (ethnicisme) و الإرهاب القائم على الهوية أو النـزعة الكونية المتوحشة،إنه انحدار غير مسبوق في مانوية ( ) خطيرة:إما خضوع الثقافة،ثقافة الآخر لقانون المعادلة المفترس،وإما التهميش والإقصاء.
هذا المأزق الذي وقعت فيه ديمقراطية ما بعد الكليانية يمكن أن نقرأه في التعدد الواضح في خطاب الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة الذي حصر العلاقة مع الآخر ضمن خيارين لا ثالث لهما: قطب المغايرة الجذرية وقطب الانتماء المشترك.
وفي تقديرنا فإن الانحسار ضمن هذه القطبية المزدوجة لا يساعد في إعادة تحديد مضمون الحوار المنشود بين الثقافات بل يتناقض مع مفهوم الهوية ذاته كما رأينا.
وقد انقسم خطاب الأنثروبولوجيا المعاصرة لهذا السبب إلى اتجاهات ثلاثة:
- اتجاه يدعو إلى تطهير الغيرية الجذرية وتلطيفها بالدعوة المشبعة بروح ميتافيزيقية إلى إنسانية متحدة،وإلى ذات فوق تاريخية تنحل فيها سائر الذوات الأخرى مهما تكن الفوارق بينها.
- اتجاه آخر يتعارض مع الاتجاه الأول ،ينظر إلى ثقافة الآخر على أنها ثقافة بدائية أو قديمة،وهذا يعني استحالة العثور على الذات الإنسانية المشتركة إلا بالقفز فوق الاختلافات والتناقضات التاريخية التي باعدت بين الذات والآخر .
- اتجاه ثالث يعتبر الثقافات الأخرى مراحل موغلة في القدم للحضارة الإنسانية الوحيدة والحقيقية :ثقافة الشعوب التي حصلت منها الانثروبولوجيا الثقافية لأول مرة على شرفها كخطاب علمي ( ).
ويبدو الاتجاه الأول بالفعل قادرا على تجاوز توترات العلاقة بين الذات والآخر،وتجاوز فكي الإحراج اللذين آلت إليهما ديمقراطية ما بعد الكليانية.
هذا المسار الذي نجده عند بعض فلاسفة الاختلاف وتيار ما بعد الحداثة،هو المسار الذي يتعين على الخطاب الفلسفي العربي المعاصر أن يسلكه،وهو الخطاب الذي أراده صاحب "استراتيجية الهوية" علاجيا "كلينيكيا" كما يقول من شأنه معالجة <<الخلل الوظيفي في كينونتنا المنهكة ،المحصورة بين قطبين متباعدين هما: "الانطواء على الذات" الذي يجد شرعيته ضمن خطاب ارتكاسي قائم على رد الفعل؛ و "التدمير الذاتي" الذي يطبعه الميل إلى نزعة كونية مجردة ،وعولمة تفسح المجال أكثر فأكثر لتعميق الفوارق بين الدول والشعوب >>( ).
ذلك هو ما حدا ببعض الأنثروبولوجيين المعاصرين إلى المطالبة بحالة ثقافية استثنائية تقوم على المحاصة عوضا عن الخضوع لقانون معادلة الثقافات.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاندماج في النمط الموحد (المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب) إذا كان يضمن الاعتراف والحق المشروع في التعبير عن الذات تعبيرا ديناميكيا،بل يكمن بالأحرى إما في "بلقنة الهويات" وإما في إذعان النمط الموحد لأسطورة الثراء القديم فيصبح ثقافة مهيمنة تحمل سلاح التهميش والإقصاء وتضرب سائر الأمكنة بالتوازي.
ومن هنا نخلص مع سيرج لاتوش –الذي يمثل بشكل أو بآخر منظومة فلسفية مرجعية لفيلسوفنا- إلى القول بأنه لم تكن ثمة في أي وقت كان ثقافة "نقية ،معزولة ومنغلقة" ،بل إن الثقافات إنما تعيش من التبادل والإسهام المشترك المتواصل.
هكذا تصبح تجربة التلاقي مع الحضارات الأخرى،والبحث عن الإنسانية المتحدة تجربة بالغة الأهمية من الناحية الثقافية لدى المفكر الإنسانوي.وهذا بالفعل هو ما جعل فيلسوفنا يبلور نقدا مزدوجا لما يسميه ب "أيديولوجيا الارتكاس" من ناحية ( )،و "منطقية العقل الموحد" التي تتجاوز في دلالاتها الهيمنة الثقافية الخارجية لتتغلغل في الشعور الجمعي والذاكرة المشتركة بحثا عن بذور ذلك الخلل .
هذا التناقض أو الانفصام الذي تعاني منه الذات العربية المتأرجحة بين الثراء القديم والفراغ المأساوي أو "حضور العدم" كما يقول فيلسوفنا ،هو الذي صرف الخطاب الفلسفي العربي عن السؤال الصحيح الذي هو سؤال الحداثة إلى مزعوم هو سؤال الهوية،فتحول السؤال "من نحن ؟ " ،كيف ننقذ كينونتنا المنهكة من هاوية العدم إلى السؤال "من هو عدونا ؟" ( ).
وقد كشف نتشه في "إرادة القوة" و"جنيالوجيا الأخلاق" عما أسماه ب "التحول المفهومي" الذي هو تمارسها القوى الارتكاسية – الضعيفة التي تعجز عن خلق الاختلاف في القوة بينها وبين القوى الفاعلة فتعمد إلى قلب المفاهيم وخلق نسق جديد من القيم يحمل معنى الإدانة للقوى الفاعلة.
لهذا السبب كان السؤال "من نحن ؟" <<في جوهره استبعاديا فهم يقسم الناس من الناحية الأيديولوجية إلى أصدقاء وأعداء ويعمل بطريقة صراعية .إلا أن كل صراع حسب كلوزوفيتش هو سير في اتجاه الحدود القصوى أي أنه عنف محض إذ يتعين على كل طرف من أطراف الصراع أن يستعمل أكبر قدر من العنف للمحافظة على حياته وهويته >> ( ).وبما أن كل خصم يقوم بنفس الاستدلال الاستراتيجي،فإن ذلك الصراع يصل إلى أقصاه إذا لم تعمل بعض العوائق (مثل الدبلوماسية أو الرهانات أو غيرها ) على الفصل بين أطراف الصراع >>( ).
سؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر،الذي هو سؤال العقل والمعرفة والوجود سرقته الأيديولوجيا وأحلت محله سؤال الهوية الذي هو سؤال العنف واللاوجود والسلب المطلق.<<إن خطاب الهوية هو إذن خطاب من حيث طبيعته خطاب استبعادي،فهو برسمه لحدود الولاء والحلف،يشير إلى الآخر باعتباره خصما،بل باعتباره عدوا بالفعل أو عدوا محتملا>>( ).
فهل يجب بناءا على ذلك –يتساءل فيلسوفنا- التخلي عن السؤال "من نحن ؟" واستبداله بالسؤال "ما نحن ؟" الذي يجعلنا على مسافة متساوية مع الأنواع الأخرى لتفادي الطابع الجزئي،الحصري والاستبعادي إن لم نقل الاستئصالي وولوج الكلي ؟
ومن هنا ضرورة استبدال سؤال الماهية الدال بطريقة لا شعورية على فكرة الأصل أو الهوية المجردة،الصماء،المتعالية على التاريخ ،على الوجود "الآن وهنا" ،بسؤال الكينونة أو الوجود الراهن المحدد بإطاري الزمان والمكان.
إن السؤال "ما نحن ؟" الذي يأخذ في الاعتبار مفهوم "التعين" في الزمان والمكان،هو كذلك سؤال الكينونة "المنفتحة" منذ البداية على الوجود في العالم وعلى "الوجود مع الآخرين" دون تعارض أو تنافر.
هنا نجد المفكر الإنسانوي يستعيد السؤال الكانطي "من هو الإنسان ؟" ،بمعنى هل يمكن التفكير في الإنسان بمعزل عن العقيدة التعبوية للأيديولوجيين والسياسيين،والتي تختزل وجوده في عدد من الشعارات،والرموز التي تحمل بذور العودمة ونفي الآخر بالمعنى الذي نجده عند سارتر؟ <<في هذا السياق فإن إطار الهوية يترك محله لإطار الإنسانية وتأخذ إشكالية الغيرية طابعا ميتافيزيقيا >>ويضيف فيلسوفنا قائلا <<إن السؤال "ما نحن؟ " يتضمن تأملا ميتافيزيقيا وأخلاقيا لمنـزلة الإنسان،ويستهدف سائر البشر وهو ما يسميه كانط ب "الكلية الإخلاقية الجميلة في كل كمالها">>( ).
هنا نصل إلى ذروة النـزعة الإنسانوية في بعدها الكانطي الكوسموبوليتي عند فيلسوفنا.ومهما يكن مجال تلك الكلية الأخلاقية (الدولة أو الأمة أو المجتمع المدني أو الإنسانية جمعاء) فإنها لا تصل إلى كمالها وأفضل وجوداتها إلا بالحرية والمساواة أمام القانون،والتقسيم العادل للثروة داخليا على مستوى الكيان الواحد وخارجيا على مستوى الكوكب.
III- الهوية والحداثة:
تعالت الصيحات هنا وهناك منذ بعض الوقت بفشل مشروع الحداثة عندنا،وأخذ استراتجيونا ومفكرونا في تحضير البدائل الممكنة.إلا أن ذلك كله لا يعدو كونه مغالطة كبرى يراد منها أن تغطي على فشل الخطابات التي لبست ثوب الحداثة وتمنطقت بمنطقها.فنحن لم ندخل بعد عصر الحداثة لكي نتحدث عن نهايتها أو فشلها !
لهذا وضع فيلسوفنا الجزء الأكبر من الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة في إطار الهذر الضائع والميتافيزيقا الوهمية التي لا طائل من ورائها،لأنها حصرت نفسها في إشكالية وهمية،فأطلقت العنان للخيال،وأمعنت في الابتعاد عن الواقع مثل الأعمى الذي يبحث في غرفة مظلمة عن قبعة سوداء.لقد تركت تلك الخطابات مشروع التحديث معلقا بين <<قطبين متناقضين :الهوية من جهة والحداثة من جهة أخرى>> دون أن تكلف نفسها عناء البحث في شروط إمكان الفصل بينهما.
وقد رأينا في تحديد مفهوم الهوية أن الديناميكية والتطور،وقبول الآخر،تشكل عناصر مهمة في ذلك المفهوم << فالحداثة تعني أساسا حضور الذات في العالم،الحضور الديناميكي و الفاعل علميا وسياسيا >>( ).
ويقتضي خطاب الحداثة الانطلاق من واقعة مهمة هي ضرورة << ملء الفراغ الذي ما زال يميز حضورنا في العالم >>( ) ، فراغ يعزوه فيلسوفنا إلى غياب المعقولية في جميع أنماط التعبير الثقافي وفي أنماط العيش،وأساليب الحكم،كما يعزوه أيضا إلى العودة الأبدية للذات التي تتمثل في الإيمان الميتافيزيقي بفكرة الاتصال المطلق بين الثراء القديم الذي عرفته الذات ومستقبل مشرق ينتظرها ولو بعد حين.
صحيح أن ما عر ف بالحداثة يجد مرجعيته التاريخية والجغرافية في الغرب،إلا أن الحداثة مع ذلك ليست منتوجا غربيا صرفا بحكم الإسهامات الكبيرة الناجمة عن الانتقال المكثف لمعارف الشرق وعلومه وبخاصة العقلانية الرشدية،ومنهج الشك،وتأثيرات ابن سينا وابن الهيثم والبيروني والخوارزمي..في علماء الغرب وفلاسفته،وفي الثقافة اللاتينية بصفة عامة.لهذا السبب يكون << تعاملنا مع الحداثة كتعاملنا مع أنفسنا >> وتصبح الحداثة عندئذ << تأصيلا لكياننا وعنصرا مهما لتحديد هويتنا إلى جانب العنصر التراثي الذي يزيد تحضرا وتمسكا بكياننا وانفتاحا على الحضارات التي تحاذينا >>( ).
فالحداثة لا تتحدد باعتبارها خاصية للغرب،ولا يتم فرضها بقوة السلاح،فهي ليست حيزا صالحا للقرار فيه والنفاذ إليه إلا بقدر الممكنات الواسعة.إنها لحظة من لحظات << الزمانية وهي بهذا المعنى تتحدد دائما بالمقارنة مع الماضي والأزمة الغابرة >> ( ).لهذا السبب يظل مفهوم الحداثة خاليا من كل مضمون إذا لم يتم فصله عن الماضي.ومن هنا ضرورة نقد الأحكام المسبقة حول الحداثة ومن أهمها افتراض عدم التجانس بين طرق التفكير وأساليب العيش عندنا مع ما تحمله الحداثة من بدائل في هذا المضمار.
إن الحداثة هي عبارة عن مسار تراكمي طويل يبشر بتحرير الإنسان من الأغلال والقيود ويساعده في استكمال وجوده في مظاهره المختلفة.
إن القول بأن مثل الحداثة وهي التقدم والعقل والحرية والإنسانية،قد ولدت وترعرعت في الغرب في نهاية القرن الثامن عشر لا يتعارض البتة مع تأكيد "الطابع الكوني للحداثة" باعتبارها إرثا مشتركا ساهمت فيه سائر الثقافات بدرجات متفاوتة <<وبالفعل فإن النـزعة الكونية –كما كان ينظر إليها العقل الكلاسيكي- تشير إلى هذا الطابع الكوني للتاريخ >>( )،مع أنه لا ينظر إلى تلك الثقافات إلا باعتبارها مراحل موغلة في القدم للحضارة الغربية وبالتالي لا تخلو نظرته إليها من الدونية والنـزعة الاستعلائية والتمركز حول الذات في كثير من الأحيان .
لذا كانت نقطة البداية عند فيلسوفنا تتمثل في تصحيح أحكامنا حول الحداثة ،وإعادة النظر في الأحكام المسبقة حولها والتي تتعامل معها باعتبارها خاصية للغرب.من هنا نشأ العديد من ردود الفعل الهووية الصادرة في حقيقة الأمر من "مركبات النقص" في وجداننا وكياننا بسبب التأخر التاريخي.وبناءا على ذلك لا يجوز <<نقد مشروع الحداثة لأنه متصل بمركزية الغرب،ولا لكونه مناقضا لكياننا ومهددا لهويتنا>> << ففي الحداثة شيء من تراثنا وشيء من كياننا >>( ).
لقد أخذ مسار تحرير الإنسان في الحداثة الغربية أبعادا مختلفة :طبيعية واجتماعية وسياسية وفكرية ودينية،وهي الأبعاد نفسها التي ينبغي أن يأخذها نمط المعقولية عندنا والتي حددها المفكر الإنسانوي ( )في القضايا الآتية:
1- عقلنة الفكر العلمي:
نستطيع أن نميز في إطار العلاقة بين العقل والطبيعة في تاريخ الفلسفة بين مرحلتين:المرحلة الأولى وهي المرحلة اليونانية وهي المرحلة التي عرفت أول احتكاك للعقل مع الطبيعة،وكانت العلاقة بينها علاقة "سلمية" مدفوعة بدافع استكناه الطبيعة وفهمها لمعرفة العلة التفسيرية للكون.
بيد أن البحث عن العلة التفسيرية كان خاضعا لعدد من الشروط تحدد سقفا معينا للمعقولية يجب أن يصل إليه القول الشارح منها:
- أن لا يخرج عن نطاق الطبيعة "الفيزيس" :وهذا يعني القطيعة الحاسمة والنهائية مع "الميتوس" وكل تمظراتها في القول والسلوك.
- أن يحمل القول الشارح قوته البرهانية الذاتية المستمدة من انبنائه الداخلي : وهذا يعني القطيعة مع سلطة السلف.
- أن يعرض أمام الأنظار،مع ما يتضمنه ذلك من استبعاد للخوارق والغيبيات.
أما المرحلة الثانية لعلاقة العقل مع الطبيعة فهي مرحلة الحداثة وقد اتسمت هذه العلاقة بالصدام المباشر بين العقل والطبيعة لأن الإطار المعرفي الذي حكمها هو "السيطرة على الطبيعة"،و <<غزو العالم والهيمنة عليه>>.وهذا هو الشرط الثاني من الشروط المعرفية للانتماء إلى الحداثة بالإضافة إلى الشرط الأول المتمثل في الإرادة التأسيسية والقطع مع القديم مهما كلف الثمن.بذا يتحدد فكر الحداثة بأنه فكر قطيعة في المقام الأول،يقتضي وضع حدود فاصلة بين القديم والجديد،فكر المعقولية المستندة من جهة إلى الواقع (الفيزيس) في ثرائه وتنوعه،والمعرفة البرهانية القائمة على التجريب والاستدلال من جهة ثانية.
الذي حدث في السياق العربي الإسلامي ،ليس نكوصا عن مسار التجريب الذي دشنه ابن الهيثم والبيروني وغيرهم في العصور السابقة فحسب،بل انتكاس إلى نمط من "المعقولية" يكرس التقليد والجمود،ويناصب العداء للإبداع والابتكار.
أما في واقعنا الراهن فيكفي أن نتأمل في نسبة الإنفاق على البحث العلمي التي لا تكاد تصل إلى 1 % في الميزانيات العامة للدول العربية بحسب تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة لنعرف مدى الاهتمام بهذا الركن من أركان التحديث.وقد نجم عن ذلك الخلل أن تحولت المنطقة العربية إلى منطقة طاردة للعقول التي تشارك في الوقت الحالي في نهضة الآخر وتقدمه.وسواء عللنا ذلك بخلل ما في بنية العقل العربي من طبيعة انثروبولوجية ،أو بعائق إبستمولوجي هو احتقار العرب للتجربة بالمعني العلمي الدقيق،أو بقلة التجهيزات والمختبرات،أو بانحسار الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية ،أو بالعجز في مصادر التمويل ،فإن النتيجة واحدة :ضياع الركن الأساسي من أركان الحداثة وهو التحكم في العلم والتكنولوجيا.
2- عقلنة الفكر السياسي:
لم يكن مسار تطور الدولة في الغرب منفصلا عن مسار نشأة الفلسفة وتقدم العقل.يشهد على ذلك التداخل بين ظروف نشأة الفلسفة والفضاء العريض للمداولة والتشاور الذي ميز الحاضرة اليونانية،وحتى الدولة الأفلاطونة المثالية كانت تجسد نمطا معينا من المعقولية هو معقولية عالم المثل ،وأقامت نوعا من الموازاة بين العدالة في الفرد والعدالة في الدولة.
هذا التناغم بين نظام الفرد ونظام المدينة ونظام الكوسموس مثل نوعا من الانتظام الداخلي الذي أدى إلى جعل السلطة في الوسط مكرسا بذلك مفهوم "الإيزونوميا" أو المساواة أمام القانون.
هذا لا يمنع من الإشارة إلى حركة الاستبعاد والنفي التي طبعت الدولة اليونانية الديمقراطية ،الاستبعاد الذي طال الغرباء والنساء والعبيد (الذين كانوا يشكلون ربع سكان أثينا) الذين لم يكن يشملهم جميعا مفهوم المواطنة.
وعلى الرغم من ذلك فقد نجح اليونان في جعل الدولة ليس فقط عملا من أعمال العقل فحسب،بل الحيز الوحيد الذي يسمح للوغوس بالانبثاق والتمدد.هكذا كانت المدينة عند أرسطو تتصف << بصفتين:فهي كبيرة مزدهرة،كاملة،ومميزة إلى الحد الذي يتيح لقسم من المواطنين ،القسم القادر على استخدام الوسائل الخارجية،تحقيق حياته العقلية على الوجه الأكمل،وهي من ناحية ثانية على المستوى المؤسسي منظمة بحيث تتيح للوغوس – من حيث هو أداة للتواصل الكوني- الانسياب إلى السياسة بحيث يصبح قوة من قوى الحياة الاجتماعية >>( ).
تمثلت الثورة "الكوبرنيكية" التي قام بها مكيافيللي في مجال السياسة في << وضع الأساس النظري للفكر السياسي اللاحق وبخاصة لنظرية العقد الاجتماعي من خلال بحثه عن شروط السياسي في الطبيعة الإنسانية ذاتها من جهة،ومن خلال عقلنة السياسة وعلمنتها من جهة ثانية >>( ).أما نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز فقد تمثل إسهامها الأكبر في "الفصل بين رأسي النسر" كما يقول ويعني بذلك السلطة الزمنية والسلطة الروحية وذلك بوضع حد لنظرية "الحق الإلهي" المناقضة لعقلانية التأسيس السياسي لأنها تؤسس لأولية الروحي على الزمني على نحو ما نجده عند بوسييه من جهة؛ ولنظرية "الحق الطبيعي" التي تؤسس أولية الطبيعي على التاريخي،وأولية الحق على القانون (العقل) على نحو ما نجده عند غروتيوس وبفاندوروف ( ).
هكذا تتحدد عقلانية التأسيس السياسي في ضوء ثلاثة أصناف من التعارضات:
- بالتعارض مع التوحش والبربرية، والعنف الذي يؤسس للكاووس.
- بالتعارض مع الانتماءات القبلية والولاءات العمودية أي مع الأشكال السابقة للتواجد المدني.
- بالتعارض مع نظرية "الحق الإلهي" والملكية الاستبدادية.
أما الوعي السياسي عندنا فما يزال في مرحلة ما قبل الدولة أو تلك الكلية الأخلاقية- القانونية التي تنصهر فيها الذاتيات،ويسوسها العقد الاجتماعي الذي يحدد المجال الخاص لممارسة الحرية.إن الدولة عندنا ما تزال إما ملكية وراثية،أو عشائرية،أو أوليغارشية كليانية.
3- عقلنة القول الديني:
يؤرخ لهذا الحدث عادة بحركة الإصلاح الديني التي نشأت في أوروبا في بدايات عصر النهضة على يد لوثر وكالفن.بيد أن عقلنة القول الديني إذا كان يقصد بها <<قراءة النص الديني وفهمه عقليا وتفسيره من خلال معطيات العصر>>( )،فهي قديمة وجدت في الشرق الإسلامي في العصر الذهبي للدولة الإسلامية إبان حركة الترجمة والانفتاح على علوم الأوائل ،وظهور بعض المدارس الدينية كالمعتزلة التي التزمت العقل منهجا ساعدها في ذلك الانبناء العقلاني – البرهاني للنص الديني ذاته أو في بعض جوانبه على الأقل.
ولم تقتصر عقلنة القول الديني في السياق العربي الإسلامي على المتكلمين فحسب بل كان للفلاسفة أيضا كلمتهم في هذا المضمار.فعندما صاح ابن رشد قائلا بأن "الحق لا يضاد الحق"،كان صوته مسموعا في محيطه الجغرافي (الأندلس) التي مثلت حينها عاصمة الثقافة العالمية جمعت الطلاب من كل حدب وصوب ومن هؤلاء من كان له شأن فيما يسمى بالحروب الصليبية وحركة الاستشراق وبداية الانبعاث في الغرب.فكانت العقلانية الرشدية هي الأمل الذي تعلق به فلاسفة الغرب ،والشعاع الذي اخترق الظلام الدامس الذي عم أوروبا ردحا من الزمن،وانتكس العرب والمسلمون إلى عهد أشبه ما يكون بمرحلة ما قبل التدوين، وتباعدت الحدود الجغرافية والذهنية،وزادت الشقة بينهم وبين الآخر فأنكرهم وأنكروه،ودارت الدائرة على العقل،واستدار الزمان.
هكذا يتضح أن العقل والمعقولية ،والانفتاح والتنوع - وهي الوسائل التي حصلت بها القوة في الماضي – هي نفسها عوامل النهضة في المستقبل وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بانفتاح الهوية على الوجود في العالم .فحاجة الأمة إلى الفلاسفة في الوقت الحالي أكثر من حاجتها إلى الشعراء.
وبناءا على ذلك يمكننا حصر عناصر توطين الحداثة أو بالأحرى تأصيلها في الوطن العربي والعالم الإسلامي طالما أنها بعد تاريخي من أبعاد كينونتنا فيما يلي:
1- استعادة التاريخانية الضائعة وتجسيدها من خلال الحضور في العالم وذلك بتعديل جذري في نظرتنا إلى ذاتنا وإلى الآخر.
2- رفض أيدولوجيا الارتكاس ومغالطة الهوية في الآن ذاته النابعتين من نزعة هووية تمجد حضور العدم.
3- بناء نمط خاص من المعقولية يساعد في الإبداع والاختراع على الصعيد العلمي،ويعين على تجاوز الأشكال السابقة على الدولة أو التواجد المدني على الصعيد السياسي،ويؤدي إلى إخراج اللوغوس من أزمته التاريخية وجعله يسكن من جديد جميع أنماط التعبير الثقافي بشكل عام والقول الديني بشكل خاص لكي يجعل أبعاد الهوية متجانسة وقابلة للاستمرار.
IV- الهوية في ظل العولمة:
كل ما يمكن قوله عن العولمة في هذه المرحلة هو أنا نشاط معين أساسه التنوع ومجاله هو كوكبنا بأسره.وسواء نظرنا إلى هذا المفهوم من حيث المعنى،أي من حيث حقوله الدلالية المختلفة،أو من حيث مجال عمله الذي لا يستثنى ذرة تراب واحدة من الكون بأقطابه الأربعة،فإننا سنخلص إلى النتيجة نفسها :الإرادة الشمولية التي هي - بغض النظر عن طبيعتها- إرادة واعية تماما بحدود ممارستها.
ولعل أول ما تتميز به العولمة،باعتبارها ظاهرة كونية،هو أنها تمتاز بالراهنية الدائمة،وتتمنع على الطرح الأحادي بحيث لا يمكن مقاربتها بالتركيز على الجانب الاقتصادية أو الفلسفية وحدها بل تتدخل في ذلك اعتبارات جغرافية وسياسية وبيئية.
بيد أن الميزات التي تعتبر أكثر التصاقا بهذه الظاهرة الكونية هي على وجه الخصوص:
1- سرعة انتقال المعلومات وكثافتها،بحيث أصبح العالم قرية واحة على حد تعبير عالم الاجتماع الكندي مارشال ماك لوهان.
2-تعميم أنماط الاستهلاك الثقافي الاقتصادي والإعلامي والقيمي الصادرة عن المتروبولية الدولية والتي تهدف في المقام الأول إلى إعادة موضعة الجماعات المختلفة ضن الفلك الجديد أي ضمن حدود تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا.
3- تفتيت وحدة الدولة القومية ودك "حصونها" ثقافيا بالقضاء على الثقافة الأصلية أو المهيمنة لإفساح المجال للثقافات الفرعية ؛ وإعلاميا من خلال فضح بعض الممارسات وتعريتها.
ويمكن مقاربة مفهوم العولمة من خلال ما يمكننا تسميته ب "العقلانيات الثلاث" التي عرضها فيلسوفنا على النحو الآتي:
- "عقلانية حسابية":مجالها المبادلات الاقتصادية على مستوى الكوكب.
- "عقلانية أدواتية":مجالها التقنيات والاتصال.
- "عقلانية عنفوانية ":مجالها السياسة والعلاقات الدولية ( ).
وبناءا على ذلك تأخذ العولمة أشكالا متعددة نوجزها فيما يلي:
1- العولمة الثقافية: تستهدف تعميم أنماط التعبير الثقافي الصادرة عن المتروبولية الدولية في مجلات الإعلام والفن والفلسفة والعلم..
2- عولمة اقتصادية:تكمن في اتباع الأساليب اللبرالية في الإنتاج أو ما يسمى باقتصاد السوق.وإذا كان هذا النوع هو أكثر أنواع العولمة إيجابية إذا ما أحسن التعامل معه إلا أن "الكلفة الاجتماعية" المترتبة عليه تقلل بالفعل من فاعلية هذا النظام.
فقد تلاشت بالفعل <<مثل العدالة والمساواة والاستقلال،والآفاق الروحية للإنسانية،ومشاريع السعادة والتعايش تاركة محلها ل "نموذج" الاستهلاك لعدد متنام من المنافع المادية موزعة بشكل سيء >> ( ).فقد أدى التوزيع غير العادل للثروة على الصعيد العالمي إلى تكوين بؤر للفقر في أماكن معدودة من المعمورة أصبحت شيئا فشيئا تغذي ردود الفعل الهووية في أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا الساعية إلى البحث عن بديل آخر للعولمة الاقتصادية << فقد أعادت اللبرالية الاقتصادية المعممة تشكيل المخيلة الاجتماعية والمثل المشتركة ،والتمثلات الثقافية ،كما أنها زادت علاوة على ذلك من تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والثقافية الحالية دون أن تتمكن من رسم مرجعيات أيديولوجية وقيم اجتماعية جديدة >>( ).تلك هي إحدى مفارقات العولمة التي قضت بالفعل على البنيات الاجتماعية التقليدية وأنظمة الرعاية والضمان الاجتماعي – على ما تنطوى عليه من موروث سلبي- واستبدلتها بسلطة السوق القائمة على عقلية الربح والنـزعة الفردية التملكية l'individualisme possessif التي لا تبقى ولا تذر.
صحيح أن تعميم نموذج اللبرالية الاقتصادية وتحرير المبادلات على مستوى الكوكب قد ساهم في زيادة فرص العمل وتحسين الظروف الاقتصادية لبعض الدول وخاصة في جنوب شرق آسيا من خلال ما يعرف في أدبيات التنمية ب "تصدير التجربة" وتوطين الخبرة التراكمية للشمال في مجال الصناعات والتكنولوجيا والمنظومة الحقوقية المتعلقة بالعمل والإنتاج ،إلا أن العولمة اللبرالية قد انعكست في المقابل في اتساع غير مسبوق للهوة بين الشمال والجنوب من خلال علاقات إنتاج رأسمالية غير متكافأة داخليا وخارجيا.
3- عولمة سياسية:متمثلة في تثبيت دعائم الديمقراطية اللبرالية على النحو الذي كشف عنه الفيلسوف فرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ".وتتمثل العولمة السياسية من الناحية الشكلية في حرية الأحزاب،وتنظيم انتخابات دورية..
4- عولمة قووية: (نسبة إلى القوة) يتحدد فيها الحق بمعيار القوة ،والتلويح بها ،واستخدامها في أحيان عديدة ضد كل من تسول له نفسه الشذوذ على القاعدة .هذه العولمة القووية ،العنفوانية هي تعبير عن هوس النظام الذي يضرب سائر الأمكنة بالتوازي،ويقضي على كل منطقة عاصية ،ويسعى إلى تدجين كل الفضاءت المتوحشة جغرافيا وذهنيا.
وبالفعل أدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى قيام قطبية أحادية تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية مسكونة بهوس السيطرة ،وتحول العالم من جراء ذلك من "قوة التهديد" التي طبعت الحرب الباردة إلى "التهديد بالقوة" ( ) واستعمالها الذي بات أكثر التصاقا بديمقراطية ما بعد الكليانية.
إن الحروب المعلنة على الإرهاب ،بما في ذلك حروب العراق وأفغانستان،إنما تهدف في المقام الأول ،بغض النظر عن الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية إلى القضاء على كل منطقة عاصية ،وإلى توطين كل الفضاءات التوحشة جغرافيا وذهنيا.من هنا ينبع ما يسميه جان بودريار ب "عنف العولمة" الذي يطارد كل شكل من أشكال السلب والفردنة ويستوعبه ( )،إنه عنف يؤسس للكاووس لأنه <<يعمل جاهدا على خلق عالم متحرر من كل نظام طبيعي سواء أكان ذلك النظام نظام الجسد أو الجنس أو الموت أو الحياة ،إنه أكثر من عنف،إنه هوس محموم >>( ) ينتقل بالعدوى بشكل مرعب،ويأتي شيئا فشيا على كل أصناف المناعة لدى الثقافات وعلى قدرتها على المقاومة.
إن الأمر لا يتعلق يقول جان بودريار <<بصدام للحضارات بل بتطاحن عميق يكاد يكون انثروبولوجيا بين ثقافة كونية لا تعترف بالفوارق ،وبين كل ما يحتفظ في مجال معين أيا كان بذرة من الغيرية التي لا تقبل الاختزال >>( ).
هذا البعد القووي العنفواني للعولمة يضعها على نحو ما في خانة واحدة مع الأرثودوكسية الدينية إذ كلاهما <<يعتبر سائر أنماط الاختلاف والتفرد نوعا من التجديف يجعل تلك الأنماط مرغمة إما على الدخول طوعا أوكرها في النظام وإما على الانحلال >>( ) فهل يمكن اعتبار ذلك تحقيقا لأحلام الطوباويين مثل توماس مور وكامبانيلا في قيام عولمة دينية تتمثل في الكتلكة أو "فكرة العالم المسيحي الموحد" من خلال <<إنشاء امبراطورية عالمية إسبانية- بابوية >>( ).
العالم يعود إلى المرحلة الأولى،حكم العمالقة و العصر البطولي كما يقول فيكو،إلى بربرية جديدة ،لا كالبربريات القديمة،بربريات المستوحَش المستهجَن بل "بربرية سمحة" يرعاها سدنة اللوغوس.
5- وعندما تلغي المصانع الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية ،وهي التي تتموضع من منظور التنمية والتخلف في أقصى الشمال،بأبخرتها في الجو ،يكون رد فعلها المدوي والعاصف واضحا في بنغلادش في شكل ظاهرة متكررة من الفيضانات التي تهدد كيان هذا البلد وغيره من الدول الكائنة في أقصى الجنوب.ألا يكفى هذا للحديث عن شكل آخر من أشكال العولمة هو العولمة البيئية ؟
وقد كان من الطبيعي أن يؤدي التأحيد أو قوة المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب أو << تلك العقلانية الحسابية الأدواتية،العنفوانية إلى قيام ردود فعل من النوع الهووي ،وإلى مقومات وطنية تتمثل في تنامي النـزعات القومية (...) وانبعاث الخصوصيات والنـزعات الإقليمية والجهوية ،واشتداد وطأة التعصب والتطرف،وصحوة الخطابات الدينية- السياسية ،وتضاعف الاعتداءات العنصرية ،والكراهية العصبية،وظهور سياسات داخلية وخارجية قائمة على القوة >>( ).
إن تفجر الدعاوى المطالبة ببعث الهويات ،هو على نحو ما شكل من أشكال "عودة المكبوت" ،فقد اجتثت "الآلة الحية الكونية" –كما يقول لا توش- كل ما يعلو سطح الأرض لكنها طمرت البنيات الكبرى،واحتفظت دون وعي منها بأساساتها المتمثلة في ذلك الطموح الذي لا يمكن اجتثاثه :التطلع إلى الهوية ومنها إلى التذويت.ويمكن التعرف في ذلك التأحيد أو المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب على جذور الثقافات التي تعرضت للإذلال وديست بالقدم،والتي تنتظر الفرصة السانحة للظهور من جديد ،ظهورا – يقول سيرج لا توش- قد يكون هذه المرة فتاكا ومرعبا.
إن تلك الثقافات المكبوتة المسكونة هي الأخرى بالحنين إلى الثراء القديم واسعادة تاريخانيتها الضائعة ،والتي لم تجد مكانها الضروري في العالم نظرا لإيقاعها المنخفض ،لم تجد الاعتراف بحقها المشروع في الوجود لمغايرتها الجذرية،ستعود لا محالة من جديد،وستجد فرصة للانبعاث فطائر منارفا لا يبدأ في التحليق إلا عند الغسق.
إن ردود الفعل الارتكاسية على إخفاق وتائر التنمية واسراتيجياتها،والدعوات الكثيرة إلى بعث الهويات القومية والدينية ،ومقاومة التأحيد والمشاكلة الكونية،بدأت بالفعل تأخذ أشكالا مختلفة أكثر عنفا وأشد تجذرا أكثر من أي وقت مضى.وكان من نتائج ذلك أن انقسم العالم إلى عوالم ثلاثة أو عولمات ثلاث هي حسب سيرج لا توش ( ):
- العولمة الحالية وهي عولمة أمريكية تتقاطع كما رأينا في الكثير من جوانبها مع العولمة الدينية المتمثلة في فكرة الكتلكة أو العالم المسيحي الموحد عند كابانيلا وتوماس مور.
- العولمة الإسلامية : وتتمثل حسب اعتقاده في "التدبير التيوقراطي للدولة" وفي "أسلمة الحداثة"،وفي <<مشروع إعادة توحيد للجسم الاجتماعي على أساس وحيد هو الرابطة الدينية المجردة مع محو كل الحدود الجغرافية الأخرى >>( ).
- العولمة الاجتماعية الديمقراطية التي يدعو إليها مناهضو العولمة.
يقول سيرج لا توش <<إن الدين الذي أطر كبت ضحايا تهميش الحداثة ،والذين خاب أملهم في المشروع النهضوي الناصري والبعثي الاشراكي العربي،هو عبارة عن عقيدة مجردة ،صارمة وكونية >>ويضيف قائلا <<وهكذا وجدت النـزعة الكونية الغربية نفسها في مواجهة نزعة كونية أخرى في مثل قوتها قائمة على رد الفعل >>( ).
ومثلما وجدنا في الكتلكة مشروعا كونيا لتأسيس "مدينة الشمس" عند كامبانيلا، فإن التيار الأصولي << الذي اكتسح المجال الذي هيأته في العالم العربي التيارات العروبية بشقيها البعثي والناصري >>( )،يسعى في الوقت الراهن إلى وضع اللبنات الأولى "لعولمة أخرى" بديلة بدأت بوادها تلوح في الأفق.
إلا أن الأمر في نظر لا توش لا يتعلق بمشروع مختلف من حيث الجوهر <<فمناهضة التغريب عند ذلك التيار إرادة معلنة ،لكنها لا تصل إلى حد التشكيك المطلق في جدوى الرأسمالية.فالتدبير التيوقراطي للدولة هو تحريف للحداثة أكثر منه مشروعا مختلفا عنها اختلافا جذريا،وبالتالي فإنه يتضمن رفضا للميتافيزيقا المادية الغربية إلا أنه بحاجة إلى الإبقاء على "قاعدتها المادية" وعلى الآلة بشكل أخص>>( ).إن الأصوليين الجدد يقول أوليفييه روي <<هم أولئك الذين تمكنوا من أسلمة العولمة عندما رأوا فيها إرهاصات إعادة بناء مجمع إسلامي كوني وبطبيعة الحال شريطة عزل الثقافة المهيمنة :التغريب في ثوبه الأمريكي،لكنهم لكي يقوموا بذلك فإنهم لا يصنعون سوى كلي على غرار الكلي الأمريكي يحلم بالتوصل إلى "ماكدو حلال" أكثر من حلمه بالعودة إلى موائد الخلفاء الحقيقيين القدامى>>( ).
هذا النقد المزدوج للعولمة بما هي أمركة،وبما هي <<عقلانية حسابية- أدواتية،وعنفوانية >>( ) قووية من جهة،وبما هي تحريف للحداثة ،ونزعة ارتكاسية قائمة على <<رد الفعل من النوع الهووي>> هو الذي ألهم المفكر الإنسانوي ووجهه إلى البحث عن استراتيجية جديدة للهوية في إطار الجدلية المزعومة بين الهوية والعالمية،استراتيجية تستلهم العبر من التاريخ دون إعادة إنتاجه.وبالفعل فقد <<استطاع الإسلام ،في الفتوحات التي قام بها، إعادة تنظيم المجتمع الإسلامي مع المحافظة على ما هو جوهري في مضمونه الحضاري ،لكنه لم يمح آثار الثقافات الأخرى وأنماط العيش المغايرة له>>( ).
ومن هنا يمكننا الحديث عن عولمتين إسلاميتين:
- العولمة الأولى هي التي حدثت حول منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى في العصور الوسطى ،وكانت قائمة على نوع من التجانس والتكافؤ،والتبادل الإيجابي،وإقرار الاختلاف،و الانفتاح على الآخر وتجربته الحضارية.وهي على الرغم مما شابها من بعض ردود الفعل الهووية المتمثلة على سبيل المثال في الحركة الشعوبية ،إلا أنها كانت إجمالا عولمة متكافئة بما تضمنته من قيم التسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر فكانت الحاضرة الإسلامية بالفعل عالما مصغرا يجمع بين حضارات الشرق الأقصى وبلاد الفرس،والحضارة الهلنستية وتراث العرب و البربر في شبه الجزيرة وشمال إفريقيا،ونجم عن ذلك تبادل للإنتاج المادي والرمزي في كل الاتجاهات.
أما العولمة الأخرى فهي التي تحدث عنها سيرج لا توش ،وهي علاوة على التناقض الذي تحمله في طياتها والذي يتمثل في "التحديث بدون حداثة" كما يقول،استبعادية لا تعرف التسامح.<< لقد أدت ردود الفعل الهووية والارتكاسية هذه إلى نشأة خطاب أيديولوجي جديد يرتكز تارة على أيديولوجيا دينية تعبوية ،وتارة على الشعور بالانتماء العرقي،وتعتمد تارة أخرى على نزعة قومية كليانية ،ويتغذى هذا الخطاب من اليوتوبيا الشعبوية المقرونة بشيطنة الآخر وتبرير استبعاده >>( ).
هنا نجد نوعا من تجربة "مسح الطاولة"عند الفيلسوف لأنه يحل كل الخطابات العربية المعاصرة في خانة "حضور العدم" طالما أنها عاجزة عن الانطلاق من الوجود "الآن وهنا".
لكن السؤال الأعمق الذي يعبر عن عمق المساجلة والنقد المزدوج عند المفكر الإنسانوي هو: << أليس من الضروري أن نحدد موقعنا في تيار العولمة الذي يميز عصرنا لكي نتفادى في الوقت ذاته الوجود الأحادي وتأحيد الوجود ؟ >>( ).
إن حل هذه المعضلة يتمثل في إعادة التفكير في الهوية في إطار المعطي الجديد الذي هو العولمة فلا يكون مطلب الهوية والخصوصية الثقافية عندنا سببا للانكفاء على الذات،ولا تؤدي بنا المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب إلى التلاشي والذوبان وهذا يتطلب "إعادة صياغة هويتنا"( ) لتتأقلم مع معقولية العلم والتكنولوجيا،ولتخضع لمتطلبات الثقافة النقدية:باختصار أن نصبح جزءا من العالم.
وطالما أن العولمة ليست خيرا محضا ولا شرا محضا فإننا مطالبون بالتعاطي الإيجابي معها وذلك ببلورة استراتيجية ذاتية تأخذ في الحسبان الخصوصية الثقافية المرنة والديناميكية مع الوعي في الوقت ذاته بمخاطر العزلة والانحسار ضمن الحدود الضيقة للدولة القطرية.
المصادر والمراجع:
1- Fathi Triki , La Stratégie de l'identité,Editions Arcantères ,Paris ,1988.
2- Fathi Triki, Les philosophes et la guerre,Editions Bairuni,Tunis,1985.
3-Serge Latouche, L'occidentalisation du monde, La Découverte, Paris,2005.
4-Gianni Vattimo, La fin de la modernité ,nihilisme et herméneutique dans la culture post-moderne,Trad.Charles Allunni,Ed.Seuil,Paris,1987.
5- Jean Baudrillard,"La violence de la mondialisation",Le
Monde diplomatique ,novembre 2002,p.18.
6-Mxime Rodinson, "La peste communautaire",Le Monde ,1er décembre,1989.
7- فتحي التريكي،رشيدة التريكي،فلسفة الحداثة،مركز الإنماء القومي،بيروت،1992.
8- فتحي التريكي،العقل والحرية،تبر الزمان،تونس،1998.
9- فتحي التريكي،الفلسفة الشريدة،مركز الإنماء القومي،بيروت،بدون تاريخ.
10- فتحي التريكي،قراءات في فلسفة التنوع ،الدار العربية للكتاب،1998.
11- جياني فاتيمو،نهاية الحداثة،الفصل التاسع :"التأويلية والانثروبولوجيا"،ترجمة البكاي ولد عبد المالك،مجلة فضاءات ،دار الأصالة والمعاصرة،العدد 21-22، سنة 2005،ص ص 50-67.
12- جياني فاتيمو،نهاية الحداثة،الفصل العاشر: "العدمية وما بعد الحداثة في الفلسفة"،ترجمة البكاي ولد عبد المالك، مجلة فضاءات ،دار الأصالة والمعاصرة،العدد 19-20، سنة 2005،ص ص63-79.
13- ماكس هوركهايمر،فلسفة التاريخ البرجوازية،ترجمة محمد علي اليوسفي،دار التنوير للطباعة والنشر،بيروت،1989،ص 66.
14- البكاي ولد عبد المالك،"المجتمع المدني،الدولة والسوق"،مجلة دراسات،العدد 24،2005 ص ص37-66.
15- البكاي ولد عبد المالك،لوغوس كاووس أو تغريب العالم في زمن العولمة- حدود الهوية وآفاق التعايش،مجلة فضاءات ،العدد 31-32سنة 2007.