الأربعاء، 11 أغسطس 2010

كتاب : نتشه ،الأخلاق والأصل المزدوج- تأليف : د.البكاي ولد عبد المالك


مقدمة:

قد تكون الفلسفة بالأساس عملا نقديا يتجه ضد الأحكام المسبقة أو الظن المشترك الذي يحدد غالبا السلوك بمعناه العام.لكن كنه هذا النقد وماهيته يختلفان من فيلسوف لآخر تبعا لاختلاف العصور والمحددات الظرفية التي تدخل في بناء الخطابات الفلسفية.

ولا يعود هذا الاختلاف فقط إلى الوسائل التي يستخدمها والمسائل التي يتناولها وإنما أيضا إلى طبيعة "النتائج" التي يتوخى الوصول إليها.

فإذا كان النقد الأفلاطوني منصبا على "سطوة الخطاب" السوفسطائي،أي المعرفة السائدة والظن المشترك ؛والنقد الديكارتي متجه نحو السلطة بأنواعها الفلسفية واللاهوتية والعلمية أي كل ما يميز الإرث الأرسطي في العصور الوسطى؛والنقد الكانطي متعلق لا بالمسائل بل بالوسائل،بالعقل،يرمى إلى تكسير أوهامه وتناقضاته؛فإن التراث الفلسفي الغربي متمثلا في هذا الثالوث إنما يسعى – بالنسبة إلى نتشه- إلى هدف واحد وواحد فقط ألا وهو إقامة "الصرح الأخلاقي السامي" ( ) كما يقول عن طريق بناء شبكة قوية محصنة من المفاهيم أو المسلمات الأخلاقية التي لا يتطرق إليها الشك أو النقد سواء تعلق الأمر ب "الخير الأسمى" أو "رأس الثالوث المسيحي" أو "الكوجيتو" أو "الفكرة الواضحة والمتميزة" أو "الآمر المطلق"،أو "الواجب"...مع نتشه إذن ولأول مرة نشهد تحولا مفهوميا أساسيا يطال مختلف المفاهيم أو المسلمات الأخلاقية و الميتافيزيقية . فتلك المفاهيم والمسلمات تفقد مع نتشه كل بعد ميتافيزيقي أخلاقي على الأقل إن لم نقل إنها تكتسب معان أخرى لا تبتعد كثيرا عن إيحاءاتها الشعبية أو العامية . فمفاهيم مثل "الحقيقة" و"الأخلاق" و"العدالة" و"الغلle ressentiment " و "القانون" و "الرحمة" ... يجب من منظور نتشوي، ألا تفهم إلا في سياقها الجنيالوجي الذي يجردها من كل الدلالات والمعاني التي لحقت بها طيلة عمرها الفلسفي المديد، وهو ما يسمح لنا بالنظر إليها في صفائها وتنوعها، بالتالي في "صراع" أو على الأقل في قطيعة تامة وجذرية مع ماضيها الفلسفي.

هذا التحول المفهومي الذي يحاول تجاوز البنيات القاعدية التي تأسست عليها مختلف التصورات الفلسفية والأخلاقية والدينية،بدءا بالأفلاطونية،مرورا بالبوذية وانتهاءا بالمسيحية –التي هي ذاتها<< أفلاطونية عامية>>- ( ) أو "ذات استعمال شعبي"، هو ما تكرسه الرؤية الجنيالوجية النقدية لمختلف هذه المفاهيم في كتاب "جنيالوجيا الأخلاق".

ومن هنا يمكن القول بشكل عام بأن الحس النقدي النتشوي منصب بالدرجة الأولى على كل ما يميز التراث الفلسفي الغربي وخصوصا الفلسفات النسقية ذات النـزعة التشميلية ،تلك الفلسفات التي اعتادت أن تنظر إلى العالم والحياة نظرة تيولوجية أخلاقية انسحبت بكل أبعادها على الخطابات الفلسفية فطبعتها بطابعها ولم تترك لهؤلاء الفلاسفة "المرضى" كما يقول أية فرصة لمغادرة هذه التربة ذات الطابع الأخلاقي التي تنتج تلك المفاهيم.

ومهما اختلفت التسمية وتعددت السبل (في الفلسفة والأخلاق والدين) فإن التراث الغربي متمثلا في هذا الثالوث يأبى إلا أن يكون له هدف موحد وهو "الوصول إلى الحقيقة" و"الحقيقة بأي ثمن"( ).وهذا الهدف الموحد هو ما ينتقده نتشه قائلا:<<إن إرادة الحقيقة تحتاج إلى النقد >> . فالحقيقة التي تسعى إليها جميع أشكال التعبير الثقافي الغربي إن هي إلا <<أكذوبة في خدمة الحياة>>.

من هنا يكن القول بأن نتشه سعى إلى تحويل إشكالية البحث الفلسفي عن الحقيقة (الخاصة بالفلسفة) إلى إشكالية عامة أو قل إنه لا يرى في هذه الإشكالية التقليدية الضيقة وهي إشكالية البحث الفلسفي عن الحقيقة التي تحكمت حتى الآن في نشأة الأنساق الفلسفية والأخلاقية والدينية سوى بحث أخلاقي عن إرادة القوة !

لهذا فإن دور النتشوية باعتبارها فكرا نقديا سيكون مزدوجا:

فهي تحاول أولا أن تبين أن المفاهيم الأخلاقية المختلفة ذات منبت وسياق تكويني يختلف عن ذلك الذي تستخدم من أجله عادة وهو ما يسميه نتشه ب "الأصل المزدوج" أي من حيث نشأتها وانحدارها من "الأقوياء" أو من "الضعفاء" . ومن ناحية أخرى لا ينبغى النظر إلى هذه المفاهيم من زاوية المعرفة لأجل المعرفة وإنما باعتبارها أنواعا من الإرادات الضعيفة تحاول البحث لنفسها –ولو مؤقتا- عن موطئ قدم في عالم لا محل للضعفاء فيه.

وثانيا:حاول نتشه،انطلاقا من التأويل الجنالوجي لتلك المفاهيم والبحث لها عن أرضية جديدة حيث تعرف نشأتها وتحولها في آن،اقتطاع نصية فلسفية متميزة تقطع كل صلة لها بالسماء القديمة وتتطلع إلى "بناء سماء جديدة"( ) على الأرض.

إن أية نظرة فاحصة في "جنيالوجيا الأخلاق" تظهر أن النقد النتشوي يتجه أولا ضد فكرة النسق سواء أكان فلسفيا أخلاقيا أو دينيا أو حتى علميا، ذلك النسق الذي يدمج كل المعارف في بنيته ويوازي بينها وبين مظاهر الوجود زمانيا وفضائيا فيصبح معرفة مطلقة لا تترك مجالا للاختلاف . وقد حاول نتشه أن يضع حدا لهذا الطابع الشمولي النسقي، يدعو إلى أسلوب جديد للفلسفة بعد أن تتحرر من قبضة الأخلاق والمثال الزهدي هو أسلوب الكتابة التشبيهية تكون كضربات المطرقة غير متصلة ودون أن تكون الأفكار فيها متصلة فيما بينها بصفة نسقية . ولهذا فإن النقد النتشوي انصب بصفة غير مباشرة على فكرة النسق كما يظهر لدى هيغل على سبيل المثال، ذلك النسق الذي يبتلع كل الاختلافات ويستوعبها.

وتكشف المقاربة الجنيالوجية لمختلف المفاهيم الأخلاقية في "جنيالوجيا الأخلاق" عن المضمون الحقيقي لفلسفة نتشه باعتبارها فلسفة نقدية في مجال الأخلاق.

ويرتبط هذا التأويل الجنيالوجي للآلية المفهومية الأخلاقية، أشد الارتباط بالحقيقة الأولى التي سعى نتشه إلى الكشف عنها في كتابه الذي ين أيدينا الذي هو بمثابة حرب كلامية هي حرب نتشه ضد الكل،وتلك الحقيقة الأولى هي:أن الإنسان غريب عن ذاته،سجين للوهم وللوهم الذاتي، يلعب دور المستورد- المستهلك لقيم وأفكار غريبة لا بالنسبة إليه باعتباره إنسانا بل أيضا بالنسبة إلى الأرض التي يعيش فوقها.ويتساءل بطريقة غير مباشرة:لماذا لا يكون للإنسان الغربي في ضوء الاكتشافات العلمية الكبيرة التى حققها ،والاكتفاء الذاتي الذي أنجزه في مجال خلق وسائله المادية والتكنولوجية وإنتاجها ،لماذا لا يكون بالمقدار ذاته قادرا على خلق "قيم جديدة" للإنسان فقط تحل محل "القيم الكوسمولوجية" ؟ ألا يمكن أن تشكل هذه القيم "أكبر خطر على الإنسانية"( ) بعد أن انتقلت عدواها إلى الفلاسفة جاعلة إياهم "مرضى" ؟ ألا يمكن أن تكون الحضارة الغربية والحال هذه مهددة "بالعودة إلى بوذية جديدة ؟ إلى بوذية أوروبية ،إلى العدمية "( ) ؟ هل هذه القيم الأخلاقية حقيقية أم زائفة ؟ بمعنى : هل هي قيم قائمة بذاتها تمثل خارجا موضوعيا للصراعات التاريخية للقـوى وسيطرتها ، أم أنها بالأحرى تمثل خطابا سلطويا ينحصر في فضاء الممارسة الاجتماعية ؟!

هذه الأشكالية بامتداداتها المختلفة هي ما حاولنا معالجته في هذا الكتيب من خلال دراسة تحليلية نقدية اعتمدنا فيها على المنهج التحليلي التركيبي من خلال عمليات العقل الثلاث:التحليل والنقد والمقارنة.

تناولنا في الفصل الأول وهو بعنوان "نتشه والمنهج الجنيالوجي" أسلوب الفلسفة عند نتشه وذلك من خلال مقارنته بأسلوب الفلسفة عند الفلاسفة المعاصرين مثل كانط وهيغل.

أما الفصل الثاني وهو بعنوان "نقد الأسس وتحرير المفهوم" فهو عبارة عن دراسة تحليلية لقضايا النقد الفلسفي عند نتشه كما عرضها في الفصل الأول من كتاب "جنيالوجيا الأخلاق" وقد تناولنا فيه على وجه الخصوص مسألة الأصل المزدوج وما يمكننا أن نسميه ب "تاريخانية الأخلاق" عند نتشه من حيث ارتباطها بصراعات القوى وسيطرتها.

أما الفصل الثالث وهو بعنوان "الأخلاق والمثال الزهدي" فهو عبارة عن دراسة تحليلية للفصل الثاني من الكتاب المذكور وهو استمرار لتاريخانية الأخلاق لكن عبر ربطها بالحياة والعلم والفن كل ذلك من خلال مفهوم أساسي في فلسفة نتشه وهو مفهوم المثال الزهدي.

أما الفصل الرابع فيمثل على نحو ما لحظة ما بعد نتشه لأننا استعرضنا فيه ردود الفعل الفلسفية على فلسفة نتشه وبخاصة مشروع فوكو الفلسفي المتمثل في الانتقال من جنيالوجيا الأخلاق إلى أركيولوجيا السلطة المنبثة في كل الخطابات.





هناك تعليق واحد:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.